الموروث الشعبي

mainThumb

08-01-2023 12:03 PM

صور ... صور، هو ما يمكث في ذاكرة الإنسان مع مرور الزمن، كأن ذاكرة الإنسان ألبوم من الصور يوثق فيه وعليه كل الأحداث والوجوه والأشياء والتجارب التي مارسها أو مرت به، فكل حياة الإنسان عبارة عن صور رسمها من واقع أو سيرسمها من خيال وحُلم تمناه، فكأنما الإنسان هو بقايا لتلك الصور.
صورٌ تزاحم صوراً أخرى، تمحو بعضها وتحجب البعض وتشوش ملامح البعض الآخر ولكنها لا تمحوه أبداً، بعضها واضح وبعضها ضبابي التفاصيل، وبعضها الآخر لم يبق منه إلا جزئيات مغروسة في ذاكرة الغارق فيها، فبعضها يدعو إلى الحزن وبعضها يحمل في طياته معالم الفرح والبهجة والسرور، لاتناقض فيها وإنما تبقى الصورة المرئية والمحمولة في الذاكرة هي أبلغ من اللغة المحكية مهما طال الزمان عليها واندثرت معالم الماضي لأنها موروث الإنسان الحقيقي وذاكرة الروح.
وعندما لايوثق الإنسان ما يمر به خلال مجريات حياته على الورق يقوم بتوثيقه على شكل صور مرسومة بريشة من المشاعر والأحاسيس، أو يقوم هو برسم هذه الصورة من جزئيات الأحداث التي مر بها وعاصرها أو سمع عنها ليقدم رسالته من خلال صورة رسمها وتصورها أو استذكرها من ما تبقى لديه منها في الذاكرة.
فالموروث الشعبي هو كل ما توراثه الجيل الحالي عن الأجيال السابقة من أمور معنوية أو مادية أو لفظية، بحيث يعتبر هذا الموروث الشعبي هو موروثاً مناطقياً اعتقادياً لا موروثاً حدودياً، فالأدوات والمسميات وطريقة العيش والتعايش مع البيئة واللباس والأغاني وطرق التعامل مع الأحداث هي عبارة عن موروث تتميز به كل منطقة جغرافية عن الاخرى، تبنى في الأساس على الأفكارالسائدة في تلك الحقبة من الزمن وعلى طبيعة الحياة السائدة وعلى مقوماتها المتوفرة والمتاحة.
حيث تترك الطبيعة التي تميز كل منطقة جغرافية أثرها الكبير في رسم شكل ونوعية الموروث الشعبي والعادات والثقافة بكل تفاصيلها الدقيقة، فالمنطقة الجغرافية الواحدة بطبيعتها وظروفها الجوية ومحاصيلها وأسلوب معيشة أهلها هو ما يشكل موروثها الشعبي والذي يعبر بالأصل عن طريقة سكانها في التعامل مع البيئة والمعطيات، فمثلاً إن لأهل منطقة حوران الممتدة ما بين دول حالية عدة طبيعية معيشة زراعية ورعوية، شكلت موروث أهلها الشعبي المادي ونتج عنه أدوات مختلفة يستخدمونها في ذلك، ونتيجة لوجود هذه المنطقة بالقرب من القدس ودمشق كان للجانب الفكري والنضالي ضد الصليبين واليهود والأعداء حسب ما يعتقدون أثر في تشكيل موروثهم اللفظي من أغاني وأهازيج ومعان بطولية مختلفة.
وهذا ينطبق على المناطق الصحراوية وموروث البادية اللفظي والمادي بحيث يتشابه هذا الموروث لدى سكان باية الشام والجزيرة العربية والعراق ويتشابه لدى سكان العقبة الأردنية وما لدى سكان سيناء المصرية، وكذلك ينطبق هذا على كافة المناطق الجغرافية الاخرى في العالم، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر لا يمكن حصره في الدول الحالية فلا يمكن أن تكون أدوات الزراعة الموجودة في موروث أهل شمال الأردن الشعبي مفصولة ومختلفة عن تلك التي توارثها سكان الجنوب السوري والشرق الفلسطيني القريب من هذه المنطقة، لكونها كانت منطقة واحدة قبل تشكل الدول الحالية ونتيجة لسهولة التواصل فيما بين سكان هذه المناطق سابقاً وبسبب تبادل خبراتهم في المجالات المختلفة.
فموروث الأمم الذي يبقى ويدوم ويستحق أن يفتخر الناس به ويَصلُح أن يطلق عليه مصطلح الموروث الشعبي هو الموروث المرتبط بالجانب الفكري والعقائدي والإنجاز الحضاري والمدني من لغة وكرم وشهامة ونصرة للمظلوم وقول الحق والعدل وغيرها من المعاني والقيم السامية، أما ما دون ذلك فهي أدوات وأساليب ظهرت في حقبة زمنية معينة وفي بيئة جغرافية محددة يوجد لدى الغير مثلها وقد يكون أكثر ثم تتغير بناءً على تغير الظروف والمعطيات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد