قراءة الأدب بين التسلية والتفسير

mainThumb

03-02-2023 05:10 PM

السؤال الأول الذي يطرح حول قراءة الأدب: لماذا نكلف انفسنا بقراءة الروايات والحكايات ؟ فالحياة قصيرة وهناك أشياء ملحة في حياتنا ككتب المعلومات والتعليمات والنقاشات لابد لنا أن نقرأها فلماذا نضيّع وقتنا الثمين في قراء حكايات خيالية. والاجابة الدائمة: التسلية والفهم .
منذ نشوء اللغة لم يجد الناس متعة في متابعة المغامرات الخيالية لأشخاص خيالين فحسب بل ساهموا في انتاجها. فأي شيء – دون ان يسبب أي اذى- يقلل من متاعب الحياة ويساعد على مضي الساعات سريعا لا يحتاج الى تفسير لقبوله .
فالتسلية والاستمتاع الدائم هو التبرير الأول لقراءة الروايات والقصص.
ولكن مالم تمنحنا الروايات والقصص شيئا يتجاوزالاستمتاع فلن يكون هناك مبررا لدراستها في مقاعد الدرس الجامعي . دون ان تتجاوز الروايات التسلية إلى توسيع مداركنا وتهذيب تفكيرنا او تسرّع احساسنا بالحياة فقيمتها لا تزيد عن لعبة كرة الطاولة او الغولف وورق اللعب . وحتى يكون فيها ما يستولي على اهتمامنا فلابد لها ان تمنحنا التسلية بالإضافة الى الفهم.

قد يتيح لنا الأدب أن نفهم تجارب البشرية عبر العصور، ونفهم ذلك فهما عميقا من خلال وصف التجارب الخيالية التي تمدنا ببصائر حقيقية فعلية!
" التاريخ الأصدق" قال ديدروت عن روايات صموئيل ريتشاردسون " تزخر بالأكاذيب وروماٍنسيتك مليئة بالحقائق." لكن القسم الأعظم من الروايات والقصص لا يقدم لنا تلك البصائر. فقط جزء بسيط منها قدم ذلك . لذلك فقد نقسّم الأدب في البداية الى نوعين: ادب الهروب( التسلية ) وادب التفسير.
أدب الهروب( التسلية) هو الادب الذي يكتب من اجل التسلية فحسب- ليساعدنا على تمضية الوقت بسرور وأدب التفسير: هو الذي يهدف الى توسيع مداركنا ويشحذ وعيّنا للحياة وادب التسلية يبعدنا عن الواقع متيحا لنا ان ننسى مشكلاتنا مؤقتا . اما الادب التفسيري فيأخذنا من خلال الخيال الى أعماق الواقع متيحا لنا ان نتفهم مشكلاتنا وموضوع ادب الهروب هو التسلية فحسب اما أدب التفسير فموضوعه الفهم والتسلية معا!
وبما انا حددنا الفرق بين الضربين فيترتب علينا الا نبالغ ولا نبسّط كثيرا ! فالهروب والتسلية ليسا حاويتان واسعتين نقذف فيهما أي قصة او حكاية لكنهما كفتي ميزان يطوف بينهما عالم الخيال الأدبي. والفرق بينهما لا يكمن في غياب او وجود المغزى . فالقصة الضحلة تركيبا واحداثا قد تحوي مغزي بعيدا عن الشك في حين قد تفتقر قصة تفسيرية الى المغزى تماما باي معنى من المعاني التقليدية . وليس الفرق وجود " الحقائق" او عدمها وقد تزخر قصة تاريخية رومانسية بالمعلومات التاريخية ومع ذلك فهي قصة تسلية خالصة في تصويرها للسلوك الإنساني ‍! والفرق لا يكمن في غياب او وجود عنصر الخيال. وقد يكون لقصة التسلية مظهرا سطحيا لواقع الحياة اليومية بينما قد تفرض علينا حكاية، تبدو خيالية ظاهريا، حقيقة واقعية مفاجئة . فالفرق بين الضربين أكثر عمقا واكثر دقة من الفروق التي ذكرناها كلها. فالقصة تصبح تفسيرية عندما تنير جانبا من جوانب الحياة البشرية او السلوك البشري.
تقدم القصة التفسيرية لنا بصيرة – كبيرة ام صغيرة- في طبيعة وظروف وجودنا! فهي تزودنا بوعي أعمق بكياننا كبشر في عالم يكون أ حيانا صديقا وأحيانا أخرى عدوانيا وتساعدنا أيضا في فهم من حولنا وانفسنا.
يتضح الفرق في المثال التالي: كاتب ادب التسلية كالمخترع الذي يبتكر ابتكارا للتسلية فعندما نضغط على زر ما تنير الأضواء وتقرع الاجراس ، وتتحرك الرسومات الكرتونية مرتعشة جيئة ذهابا في اتجاهات متفرقة على افق رسومات . فالكاتب التفسيري رائد مكتشف يأخذنا الى أعماق الحياة ويقول لنا :" انظروا ، ها هو العالم" اما كاتب ادب التسلية كالمهرج لديه خدع و مفاجئات : فهو يسحب الارانب من قبعته وينشر امرأة جميلة الى نصفين ويخطف كرات زاهية الألوان من الهواء بينما الكاتب التفسيري يأخذنا الى ما وراء المَشَاهِد حيث يرينا الدعائم والمرايات ويسعى لتوضيح الاوهام والخيالٍ. وهذا لا يعني ان الكاتب التفسيري هو مجرد مراسل يصوغ مواده ويعطيها شكلا اكبر تأكيدا من كاتب التسلية . و يصوغ ويشكل مواده دائما قاصدا ان يجعلنا ندرك ونفهم مواضيعه فَهْماً أفضل ولا يسعى لتحقيق هدفي التسلية البدائيين .
وبما ان هناك ضربان من الروايات والقصص هناك صنفان من القراء : القراء غير الناضجين او القراء الذين تنقصهم الخبرة الذين يسعون لقراءة ادب التسلية فحسب حتى عندما يقرأ من اجل التفسير او مغزى مفيد فأنه يحسب ان ما يقرا يعطيه دائما صورة للكون مبهجة مثيرة او صورة اطراء لنفسة . وجميعنا نبدأ بقراءة قصص حكايات الجن . فتجاربنا الأولى في القراءة من المرجح انها قصص من ذلك الضرب كحكاية سندريلا التي حوّلتها عرّابتها الجنية الى يقطينة وفئران وعربة يجرها حصان، ولها قدم نحيلة واحدة ذات نعل( شبشب) كريستال وقد ترعرعت وأصبحت متفوقة على عرابتها القاسية واخواتها الساخرات منها فتزوجت "وعاشت سعيدة الى الابد" مع أمير وسيم وكانت دائما ساحرة الجمال ذات فضيلة وسامحت معذبيها الأُوَل الذين ارادوا ان يبقوها فتاة الجمر.
مع ان معظم الناس ينتقلون من حكايات الجن الى نوع أكثر رشدا ظاهريا فانهم مخطئون اذ يظنون في اعتقادهم انهم قد حققوا تقدما. فعنصر الخيال لا يكمن في المقام الأول في العصي السحرية والعرابات الجنيات بل في المعالجة السطحية للحياة . فالفتاة البائعة التي يخطبها شاب وسيم من الطبقة العليا ينقذها من الظروف المؤلمة في العمل والبيت . قد تكون قصة حقيقية لسندريلا كتلك القصة التي قرانا في الطفولة مع ان مكان وقوع القصة هو "هوبوكن" وليس مملكة في البحر . ولسوء الحظ فإن العديد من القراء بل اكثرهم لا يتجاوزون حكاية الجن الا بأكثر المعاني بدائية . وفي بعض الحالات يتقهقرون لأن حركتهم تنطوي على ضياع معنى العجب الذي يميز رؤية الطفولة!
وهناك امارات عديدة للقارئ الذي تنقصه الخبرة: يضع شروطا ثابتة لكل قصة يقرا. فيصاب في الغالب بالإحباط والخيبة ان لم تلب القصة شروطه . وغالبا ما يتقيد بموضوع واحد ولا يقبل أي قصة تضع الفرد في موقف بشري فمثلا لا يقرأ الا قصص الرياضة او حكايات الغرب الأمريكي ورعاة البقر. و قصص الحب و الجريمة! وان كان لديه استعدادا لقبول مجالا أوسع من التجارب فانه يأمل ان تنطوي كل قصة في الباطن على ما يلبى توقعات صارمة ربما تكونت لا شعوريا لديه : 1- بطلا ودودا او بطلة ودودة - شخصية يتنماها القارئ ولو خياليا اثناء قراءة مغامرة او انتصار فيشاطر الشخصية الاحاسيس والمشاعر.
2- حبكة القصة التي تتوالى فيها دائما احداث مثيرة وكثير من التشويق. 3- نهاية او خاتمة سعيدة تأخذ القارئ الى افاق بعيدة وتلفه بهدوء البال والتفاؤل بالعالم الذي يعيش فيه 4- الفكرة - ان كان للقصة فكرة- التي تدعم الأفكار التي لديه حول العالم !
لا يوجد ما يعيب خصائص القصة التي ذكرناها فأدب الخيال المهم يتمتع بها كلها و والخلل يكمن في جعل هذه الخصائص مجموعة من المتطلبات الجامدة التي يجب توافرها في القصة كي يمكن قراءتها باستمتاع. وهذه القيود تحد جذريا فرصة المرء لتوسيع خبراته او توسيع بصيرته وتقلل من متطلبات المرء الأدبية الى صيغة معادلة!
والقارئ الذي تنقصه الخبرة يرغب في كل ما هو مألوف في الأساس مقترنا بإبداع سطحي .! فكل قصة يجب ان يكون لها محيطها الجديد نسبيا او خِدَعها رغم ان السمات الأساسية للشخصيات والأحوال تبقى على حالها. فهولا يقيّم القصة بناء على حقيقتها لكن يقيمها بلفها ودورانها والمفاجئات فيها بل يقيمها بدرجة التشويق او موضوع الحب الذي تحتويه فهو يريد القصص التي يقرا سارّة في معظمها . وقد يظهر فيها شر وخطر و شقاء بأسلوب لا يدعو الى اخذها على محمل الجد، لكن القارئ يحس انها قاهرة ودائمة. هو يريد قراءة سلسة تنساب بسهولة في العقل ولا تحتاج الى جهد عقلي كبير. فهو يريد شيئا يساعد على ادامة حياته الخيالية ويوفر له أحلام يقظة جاهزة تمكنه من التغلب على القيود وتحبط من يعاديه وتحقق له الفوز او الشهرة او الفتاة التي يريد!
وفي المقابل،يجد القارئ الذي يميز سعادة أعمق في القَّصَص الذي يتناول الحياة تناولا اكثر جدية من القَصَص المبني على صيغ التسلية . فهو يرفض ادب التسلية ، وليس بالضرورة ان يكون ادب التسلية رخيصا او مبتذلا . فربما يكون أصليا وذكيا ومستوعبا حسن الصياغة فني التأليف! وهناك روائع أدبية خالدة من ادب التسلية في الأساس - "بيت بان" ل-بارير، وجزيرة الكنز "ل-ستيفنسن" . وقد تكون قراءتها انعاشا للعقل والروح . وان أراد نظام تغذية روحي جاهزا فالقارئ قد يفضل الادب التفسيري. والقارئ أيضا يدرك ان نظامادب تسلية كنظام تغذية خالص عقلي -لا تشوبه شائبة - تحديدا من الضرب الأكثر فظاظة له ميزتان: 1- قد يوّلد لدينا مواقف سطحية من الحياة 2- قديشوّه بالفعل منظورنا للواقع ويمدنا بمفاهيم زائفة وتوقعات كاذبة.
فالأدب الخيالي ، كالطعام، بقيم غذائية متباينة فبعضه غني بالبروتين والفيتامينات ؛ يبني العظام والاوتار العصبية . وبعضه قد يكون لذيذ المذاق لكنه قليل التغذية وبعضه يكون مغشوشا ضارا بالصحة. وأدب التسلية هو من الضربين الأخيرين ، فالأدب غير الضار يتجلى صادقا ظاهر وباطنا . فهو لا يدعي شيئا اخر غير التسلية البهيجة ولا يطلب منا ابدا ان نأخذه مأخذ الجد. والضرب الثاني يتنكر بمظهر الادب التفسيري زاعما انه يتناول الحياة على طبيعتها تناولا صادقا. وربما يدعي انه يفعل ذلك رغم انه من خلال ضحالته يزيف الحياة في كل المجالات واذا اعتبرنا هذا الادب جديا دون تصحيح يوّلد لدينا مفاهيم خاطئة للواقع ويقودنا الى ان نتوقع من التجربة ما لا تقدر على توفيره لنا!
حين ندخل المكتبة ونشاهد كثرة الكتب كماً ونوعاً يصيبنا الذهول. فألوف الكتب مركونة على الرفوف كل كتاب منها ياسر اهتمامنا ويخيل لنا ان كل منها ينادي :" اقرأني أقراني" لكن الوقت لا يسمح لنا أن نقرأ الا عددا محدودا منها. وان كان لدينا حمكه نقرأ ما استطعنا منها دون التغاضي عن متطلبات الحياة الملحة ومشكلتنا هنا هي الحصول على اكبر فائدة منها في الوقت المتاح لنا. ولتحقيق الفائدة مما تيسر لنا ينبغي لنا ان ندرك شيئين: 1- كيف نحقق أكبر فائدة من الكتاب الذي نقرأ. 2- كيف نختار الكتب التي تعوض خير تعويض الوقت والجهد المخصصين للقراءة .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد