حين يبوح النخيل

mainThumb

05-10-2023 05:18 PM

هذا ما شعرت به وأنا أطالع سيرة الدكتورة هدى النعيمي في كتابها الأخير ( حين يبوح النخيل ) ، وكثيراً ما كنت أنظر إلى أثر الفراشة الذي لا يرى ، حقيقة ليست منصفة ... لإن مرور الفراشة مرور لطيف مبهج .. فالفراشة لا تمر في مكانٍ إلا لتجعله أجمل ..
كثيراً ما كنت انظر الى غلاف الكتاب وأستبدل في عنوانه كلمة يبوح بكلمة يفوح ، ففي الكتاب رائحة أيام تفوح وتملأ خيال من يقرأ بدفءِ ذاكرة امرأة حملت لغتها ووطنها في قلبها وجابت فيها أصقاع العالم ، كانت تحمل منذ الطفولة امتناناً حتى على شرائط شعرها ، أتخيلها فلا يسعفني الخيال في أن أتخيلها طفلةً بشرائط شعر ، ذلك أن تخيل الشجرة الوارفة بذرةً أمر صعب ، وتخيل النخلة السامقة نواةً أمر يستصعبه الخيال ، كلمات الدكتورة هدى النعيمي في إحدى جلساتنا ترددت كثيراً في خيالي حين شعرت وكأنها تتألم من خساراتٍ منيت بها لغتنا وحضارتنا في ميدان الحاضر الذي صارت فيه السرعة سمةً وصارت فيه العراقة والأصالة عيباً ، رأيتها يومها في مخيم الخور كنخلةٍ على شاطئ ، واحسست وكأن جريدها يهتز مع كل نسمة ومع كل عبارةِ حزن ،كانت تشكو وكأن للغة العربية ديناً عليها تخشى أن لا تتمكن من الوفاء به، كدت انطق واجيبها بعبارة (يفتح الله ) التي ختم بها الطيب صالح قصته الخالدة ( نخلة على الجدول ) ، لكنني وجدتها بعد ذلك تقاتل خلال مسيرتها الطويلة كفارسٍ يقف على ناصية ويدافع عن حضارته ولغته لا كرجل استسلم لما تأتي به الرياح كما في قصة الطيب الصالح ، وما أجمل أن تكون المرأة مقاتلة وما أجمل أن يكون الاهتمام ممن كان يمكنه أن يكتفي بمنجزاتٍ أخرى جعلته علامة ونجماً في سماء العلوم التطبيقية ، إذ لم تكتف الكاتبة القطرية هدى النعيمي باختصاصها العلمي ، بل قدمت إسهامات واضحة وتركت علامات فارقة في الثقافة العربية والإسهام القطري فيها ، من خلال مؤلفاتها التي أبدعت خلالها في الدفاع عن حق المرأة العربية في خوض غمار المشقة والإسهام في دور اجتماعي وعلمي وثقافي جنباً الى جنب مع الرجل مكملة دوره ومسهمةً أحياناً بما لم يتمكن حتى الرجال من تقديمه ، ومرت في خيالي بعض القصائد التي كتبها شاعر العرب الكبير نزار قباني حين ألف كثيراً من القصائد على لسان المرأة العربية وأخذ على عاتقه التعبير عن ما يدور في خلدها، وأستذكر موقفه من الكاتبة العربية أحلام مستغانمي حينما قال : لا يقدر على كتابة ما كتبته أحلام إلا عبقري أو مجنون ، وتمنيت لو أنه عاش ليرى إسهامات المرأة العربية في الثقافة والفن في أيامنا الحالية ، ليعيد صياغة عبارته تلك فيقول ، لا يقدر على هذا الكم من العطاء إلا عبقري أو مهووس ، مهووس بلغته وحضارته وثقافته ووطنه ، وكذلك حملت النعيمي وطنها في قلبها وقدمت كل ما يمكن لها أن تقدمه وأكثر ، حين تحدثت بألم حول أحداث الحروب المؤسفة التي آلمت كل ذي حس بالعروبة وكأن كل وجع في قطرٌعربي كان وجعاً في شيء من جسدها أو كأن كل عدوان على بلد عربي كان عدواناً على معنى من معاني روحها ، كانت تصف ما آلمَ الكويت وكأنها تصف الماً وعدواناً على بيتها وعائلتها الصغيرة ، وتعرج على كل قطر عربي حين لم تنس صديقاً من أي بلد عربية مرت به خلال مسيرتها الهادئة المليئة ، مستذكرة كل صديقة من أيام الدراسة في مصر ومستعرضة جمال مصر وحضارتها وطبائع أهلها ، ثم عائدةً على جناح الحنين إلى قطر الأم ، فتحس وأنت تقرأ بأن مصر وقطر كانتا بيتين متجاورين تطل من نافذة هذا فترى ذاك ، وتتمشى في فناء هذا فتمر بحديقة ذاك ، حياة أشبه بحديقة ورد، استحضرت المبدعة الدكتورة هدى النعيمي كل زهورها في مذكراتها فكانت هي نخلة وارفة الظلال في تلك الحديقة واقفة في المنتصف وحولها الكل يتفيؤون تلك الظلال كما عهدتها أيام عملي معها في مجال الفيزياء الطبية ، فقد كانت تلك سمتها في كل ميدان وفي كل طريق وفي كل درب .
وما أكثر ما لمحت العرفان للوطن فيما كتبت، وما أكثر ما مر في خيالي وأنا أطالع فيما تكتب قول محمود درويش:
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
أنا عاشقٌ والأرض حبيبة
كانت تدور بشرائط شعر فيها من علم الوطن الكثير، ولم تنس نصيبها من ذكرياته، فكانت رائحة الوطن تفوح في كل صفحة وفي كل سطر ، وكأنها تحمل وطنها في قلبها في كل لحظة وفي كل مكان .
وباح النخيل وفاح، ورأيت تلك المهيبة الهادئة التي لم تكن تقول إلا ما قل ودل ، تستذكر و تضحك وتبكي ، تركض في بدايات الطفولة ، وتجول في عنفوان الشباب ، وتعمل بجد في ربيع عطائها الذي سيبقى ربيعاً على مر السنين ، لأن أصحاب العطاء لا يشيخون ، ولا زلت أظن بأن النخلة ستؤتي اكلاً في كل عام ، أُكلاً ألوانه مختلفة ، تمر ورطب وبلح ونوار ، تهتز مع كل هبة ريح ، فلا تتحرك فيها إلا الأوراق السامقة ، ولا يسقط منها الثمر الطيب.
حين يبوح النخيل وحين يفوح عبير نواره ، كتاب السيرة الذاتية الذي أحسست وكأنه عمل روائي عن حياة بدأت في أماكن مختلفة، اجتمعت وتفرقت، ابتعدت واقتربت، سافرت وحلت وأقامت ، لكنها عادت خطوط نور لتجتمع حيث يكون الوطن ، وحيث ينادي الحنين ، وحيث العائلة والأهل ، وحيث الأصول والذكريات ، عادت النخلة لتكون عضواً في الجمعية القطرية للغة العربية ، وكأنها عاشقة حافظت على عهد وفاء ، وأرادت أن تبقى على الوعد مع لغتها وأن تمسك بيدي حضارتها حتى آخر نفس وحتى آخر رمق وحتى آخر دقة قلب .
متمنياً في الختام للغتنا العربية ولحضارتنا العريقة العظيمة، أصدقاء كثر وأوفياء كثر وعاشقين كثر ، كما كانت الدكتورة الكاتبة هدى النعيمي ، صادقة الوعد وفيّة القلب ، حقيقية الرغبة في أن تفي وفي أن تبذل وتعمل من أجل مستقبل حقيقي نكون حقاً فيه فخورين بأصالتنا وثقافتنا ولغتنا العربية ، شكراً لأن النخلة فاحت وباحت ، وشكراً للدكتورة هدى على ما أبدعت وعلى ما ستبدع في قادم أيامها .







تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد