النواة المتكئة

mainThumb

29-10-2023 06:04 PM

كان العرب في الجاهلية يعتقدون أن الرجل إذا قتل غدرا، ولم يؤخذ بثأره، فإن روحه تطير لتقف على سطح منزله، فتنعق حتى يقتص من القاتل كانوا يسمون ذلك طائر الهامه، واستمرت عادة الثأر في المجتمعات العربية تزداد حدتها وتكبر، ولنا في التاريخ العربي قديمه وحديثه امثلة كثيرة على الثأر سوآء على المستوى الشخصي او القبلي و الحروب التي فتكت بقبائل ومجتمعات واستمرت لعقود طويلة معروفة ولا مجال لذكرها ، وجاء الإسلام ولم يلغ فكرة الثأر من جذورها ولكنه وضع لها الضوابط ليكون القصاص العادل "القاتل يقتل" يقتل هو بعينه وليس احد من افراد عائلته او ليس كل العائلة و القبيلة كما ثار المهلهل لكليب مثلا ، وليس هناك من المتسع لتفصيل ذلك أيضا.
ولكن من الانصاف الذكر هنا بان الإسلام وضع ضوابط مهمة تعد الى يومنا هذا أساسا مرجعيا يعتبر مصدراً من أهم مصادر التشريع القانوني في العالم وهنا تجدر الإشارة أيضا الى ان في التاريخ الإسلامي من عهد الرسول محمد صلى الله علية وسلم الى عهد الخلفاء حصلت غزوات ونزاعات ثأرا لاحد فهذا يوضح بأن الإسلام ضبط عملية الثأر ولم يلغها تماما حسب اعتقادي فغزوة بني لحيان على سبيل المثال كانت ثأرا لستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلوا غدرا على يد بني لحيان ، ولكن وبشكل عام فان التاريخ العربي فيه الكثير من الأمثلة على الثأر ويظهر ذلك جليا في اشعار العرب وقصصهم وتاريخهم و المتأمل في ذلك يرى وكأن الثأر جبل جبلا في نفس العربي ، وليس العرب وحدهم من اشتهروا بالثأر فلو تأملنا التاريخ فستجد في الثقافة اليونانية القديمة تأصيلا لذلك في اساطيرهم وفي الثقافة الاسبارطيه و الهندية و الافريقية كذلك وحتى في الثقافات الغربية كحرب الورد في إنجلترا و حادثة هات فيلد في أمريكا كما تعد عادة ثأر الدم (Blood Feud) في المجتمعات الغربية معروفة ومشهورة ولا تزال لها بقايا في ما يسمى "المجتمعات المتحضرة " رغم التفكك الاسري المهيمن على عليها .
وفي عصر العلم يقول مايكل ماكولاه، عالم النفس التطوري، بجامعة ميامي وقد أمضى ما يزيد على عقد في دراسة الثأر والصفح: ((يعد الثأر من التجارب المعتادة في حياة البشر، ويدرك الناس في جميع المجتمعات فكرة الغضب والرغبة في رد الإيذاء بمثله)) وقد اكتشف تشيستر وزميله ناثان ديوول من جامعة كنتاكي)) مدى تشابك العلاقة بين الألم النفسي واللذة. وبينما يشعر الشخص المنبوذ بالألم، فسرعان ما يكتسي الألم باللذة حينما تسنح لهذا الشخص الفرصة للانتقام))، وهذا الشعور ينشّط منطقة في الدماغ يسميها العلماء "النواة المتكئة" وهي مجموعة من الخلايا العصبية مسؤولة عن المكافئات حسب ما يقول العلماء وقد اكتشف حديثا كما أسلفنا انها المسؤولة عن تحفيز الشعور بالثأر وتزينه للعقل البشري، إذا فهذا الثأر إذا مجبولا ليس في نفس العرب وان اشتهروا به أكثر من غيرهم فهو مكنون في دماغ البشر كنوع من المكافئة واللذة ان جاز التعبير
وهذه المقدمة المملة الى حد ما، ما سردتها ليمل القارئ الكريم ولكن هي ضرورة كان لابد من أن أقدمها بين يدي الحدث، حيث انه كان لا بد من دراسة سريعة لتاريخ الثأر ولنظرة علمية عن كنهه،
فالإحساس بضرورته اصبح جزءا يوميا من حياتها لا بل اصبح المسيطر عن إيقاع حياتنا كله ،والان قد نفهم بالدليل العلمي و التاريخي سبب ذلك الشعور فنحن كمجتمع بسيط يميل الى السلام و الهدوء ونحب الموسيقى و الشعر و الحب و الحياه ، تحولنا على مدار السنوات السابقة تدريجيا الى طلاب ثأر وأشخاص مستثارون بشكل هستيري ، لكن اذا عرف السبب بطل العجب كما يقال فمن ناحية علمية هذا الكيان الصهيوني الذي يجثم على صدورنا منذ ما يزيد عن خمسة وسبعون عاما كان و لا يزال يحفز ((النواة المتكئة ))في عقولنا وكان و لا يزال يشحذ فينا حمية الثأر حتى امتلئت عن بكرة ابيها ولم يعد لدينا مكان نخزن فيه هذا الكم الهائل من الشعور بالحاجة الى الانتقام و الثأر وفقدنا احساسنا المرهف بأشعار جميل بثينة وقيس ونزار ومللنا صباحات فيروز ومسائيات ام كلثوم والحان عبد الوهاب .
وكما ان للغرب في موروثهم الثقافي عادة ثار الدم فلا أظن بأن الغرب يملكون جزءا واحدا من ألف جزء من ثار الدم بالمفهوم العربي الذي جاء الإسلام ليضبطها قبل ان تأكل معظم البشرية فمن كان في تاريخهم حربا استمرت أربعون سنه لأجل ناقة راح ضحيتها اجيالا من البشر لازال في نفوسهم بقية من ذلك، ولا زلت اذكر مقدمة قصيدة الثأر التي القاها الشاعر العربي السوري عمر الفرا عن قصة عايشها بنفسه وهو رحمة الله شاعر معاصر حيث قال:
(قتل كلب .... وعلى بعد أربعين كيلو مترا قتل رجل .... كان ذنب ذلك الرجل انه ابن عم لقاتل الكلب) كانت تلك المقدمة قبل ان يبدأ بإلقاء القصيدة
هذا هو ثأر العرب رجل بكلب واجيالا بناقة وقبائل برجل، فكيف بنا وإذا اختلط ثأر الدم لأهلنا في فلسطين بثأر العقيدة والأرض والمقدسات؟ كيف بنا وقد أوغل المحتل في قتل أهلنا وترويع أطفالنا حتى ملئ قلوبنا ثأرا وأعاد فينا مهلهلا وعمرا وملئ عيوننا نارا وغضبا!! هذا من ناحية،
ومن ناحية أخرى هل لهذا الكيان الزائل ان يفهم ما الذي يعنيه لنا سفك دم أبناء عمومتنا واهلنا واخواننا؟ هل له أين يعيي كم من الغل عبأ في نفوسنا حتى أصبح الواحد فينا كقنبلة متحركة؟ هل يدرك ماذا يعني لنا ان يستفيق أهلنا وأطفالنا على صاروخ بحديقة منزلهم؟ وهل أدرك مكانة عرضنا في صدورنا؟ هل يعلم كم طالب ثأر الان ينتظر اللحظة ليأخذ بثأره؟ هل يستوعب ما الذي يعنيه قتل اسرة بأكملها؟ حين يستيقظ أحدنا فلا يجد أمه وأباه وأخوته؟ وان بقي فيبقى منهم واحد او اثنين ملقون على الأرض لا هم مع عداد الاحياء ولا الشهداء؟ هل يدرك ماذا زرع فيمن بقي من هذه العائلة؟ وهل آن له ان يعلم ما الذي يعنيه لنا البيت الذي يسقطه على راس ساكنيه البيت في عرفنا ليس حجرا ولا كتلة اسمنتية.
في المجتمع العربي عموما وفي المجتمع الفلسطيني خصوصا البيت هو غاية طموح الشاب فمنذ ان تبدأ طموحاته تتكون يكون أولى أولوياته ان يشتري ارضا ويبني بيتا ومعظمنا يقضي ثلاثة ارباع عمرة يكد ويعمل ليحقق ذلك الطموح، إضافة لذلك فللبيت عندنا حرمة مصانه وللبيت عندنا رمزية أكبر من حجم البيت وثمنه وأثاثة، كيف وإذا اضيف الى كل ذلك ان هذا البيت بني على ثرى فلسطين تلك التي نقرأ عن قدسية ارضها كل يوم في صلاتنا ونعتبرها ارث نبينا وصحابته وتابعية؟ كل ذلك يعني ان هذا الكيان الزائل احتل ارضنا ولكنة نسي ان يدرس تاريخنا وطباعنا ولم يقرأ عن حميتنا وثأرنا
لقد زرع فينا كل مسببات الانتقام، كل بواعث الثأر زرعت في كل ((نواة متكئة)) في دماغ كل فرد فينا شيبا وشبابا وأصبح الثأر غايتنا ومبتغانا، نعم هم من بذروا ذلك وعليهم ان يحصدوا زرعهم عاجلا او اجلا مع العلم ان الوقت ليس في صالحهم فكلما قربت مدة الحصاد كان عدد طالبي الثأر أقل فنحن امة تتباهى بنسلها وتفخر بتعدادها
وأقسم ان ذلك ليس ببعيد، سنأخذ بثأر كل نفس استشهدت في فلسطين وسنأخذ بحق حرمة بيوتنا وبحق تشريدنا وبحق الفزع في قلوب أطفالنا، بحق من قتلتم طموحهم وبحق من أزهقتهم فرحهم، وليعلم هذا الكيان الزائل بأن الأيام دول وسنة الله في خلقة ان يداولها بين الناس
فليقل الدبلوماسيون ما يقولون، وليتشدق المرجفون بما يشاؤون فسياتي اليوم الذي يكون جوابنا فيه ما يرون لا ما سيسمعون، انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا. والله لن نسامح ولن نهادن ولن ننسى، ولن نبيع ثأرنا بمال الأرض وسنورث ثأرنا لا بناءنا ان لم يكن في عمرنا بقية لثأرنا، فان في فلسطين دورنا واهلنا وعرضنا وقدسنا طال الزمان او قصر سنأخذ بثأرنا وحينها كل شعارات "حقوق الانسان" وكل بنود "القانون الدولي" وكل استغاثات المستغيثين لن تجدي نفعا، وليس لي وصية لابني الا ما قاله الشاعر العربي المصري الكبير أمل دنقل
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى...؟ تلك أشياء لا تشترى
...................
وبقية القصيدة أشهر من يعرف مثلي قارئنا عليها، ولكنها ستبقى دستورنا الى أن نأخذ بثأرنا ونخرج من تبقى منكم منها أذلة وأنتم صاغرون.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد