الحرب العالمية على غزّة!

mainThumb

11-12-2023 10:22 PM

قد يعتقد البعض أنّ في عنوان هذا المقال الكثير من المبالغة والمجاز، وقد يرى أنّ وصف هذه الحرب بـ»العالمية» ينطوي على قدرٍ من التباهي الفلسطيني بقدرات الفلسطينيين، وعلى قدرٍ من التفاخر والنرجسية، تماماً كما يمكن أن ينطوي الأمر على نوعٍ من «التبرير» المسبق لما يمكن أن يلحق بالفلسطينيين من «هزيمة» في ضوء نتائج هذه الحرب.
الحقيقة أنّها فعلاً الحرب العالمية على غزة، وهي الحرب العالمية على الشعب الفلسطيني عَبر بوّابة القطاع، وهي الحرب التي تشنّها إسرائيل بكلّ ما لديها من قوّة ومن قدرات، وهي الحرب التي تشارك بها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بشكل مباشر، وهي الحرب التي تساند دول الغرب الأوروبي من الحلقة الأقرب للولايات المتحدة بها دولة الاحتلال بالباع والذراع.
بعد «الفيتو» الأميركي الأخير أصبح واضحاً أشدّ الوضوح أنّ «الحلف العالمي» الذي يشنّ الحرب على قطاع غزة لا يعنيه من قريبٍ أو بعيد الموت الفلسطيني وأن تُعطى إسرائيل مهلة إضافية لمزيد من الإبادة والتدمير، وقد تعطى إسرائيل وقتاً مستقطعاً آخر إذا «لزم الأمر» شريطة أن تتمكّن إسرائيل من «إنجاز» ما يمكن أن تقدّمه لمجتمعها، وما يمكن أن يقدّمه «الغرب» لمجتمعاته، أيضاً.
حاملات الطائرات والبوارج والمدمّرات تجوب «المتوسّط» كلّه، وطائرات تجسُّس لا تملكها إسرائيل تحوم في أجواء غزة على مدار الساعة، وقنابل متعدّدة الأطنان في رؤوسها المتفجّرة، ومئات آلاف القنابل الأخرى، وقوّة تدميرية تجاوزت ما أُلقي على هيروشيما وناغازاكي منذ بداية الشهر الثاني لهذه الحرب ضد (الجيش الفلسطيني) الذي كلّ قوامه لا يتجاوز عدّة عشرات الآلاف من المقاتلين، وليس لديه طائرة واحدة، ولا دبّابة صغيرة، وليس لديه في الواقع سوى صواريخ محلية الصنع، وبنادق وبعض مضادّات الدروع البسيطة.
حربٌ تشارك فيها كلّ تكنولوجيات «الغرب»، وطائراته و»قنابله الذكيّة»، ويساهم فيها سبعة أو ثمانية وزراء دفاع لدول تشكّل القوة الضاربة لـ»حلف شمال الأطلسي»، ورؤساء الأركان وقادة جيوش هذا الحلف.
باختصار يشارك «حلف شمال الأطلسي» كلّه في هذه الحرب جوّياً وبحريّاً وتكنولوجيّاً، و»سيبرانيّاً»، إضافةً إلى قوّات برّية، خاصة من بعض هذه البلدان متخصّصة في حروب الأنفاق، وحروب الشوارع وحروب محو الأحياء، والتطهير العرقي والإبادات الجماعية من كلّ أنواعها القديمة والحديثة.
معادلة حسابية ليس لها أيّ علاقة، لا بالمجاز، ولا بالمبالغة، ولا حتى بالتفاخر والنرجسية، وأظنّها مقطوعة الصلة عن أيّ تبرير لما يمكن أن تنتهي إليه هذه الحرب من نتائج.
أرى أنّ من المفيد هنا العودة إلى «حرب أكتوبر» بالرغم من دعوة الكاتب المصري إبراهيم عيسى بعدم «مجرّد» التطرّق إلى تلك الحرب، لأنّها من وجهة نظره مختلفة، ولا يجوز لأحدٍ أن يأتي على سيرتها في أيّ نوعٍ من المقارنة مع الحرب التي يشنّها «حلف شمال الأطلسي» على قطاع غزة.
أقول بالرغم من تحذيرات عيسى فإنّ الرئيس المصري الأسبق أنور السادات عندما برّر لمصر، ولنفسه كقائد أعلى للقوات المسلحة المصرية الموافقة على وقف إطلاق النار بعد مرور سبعة عشر يوماً من القتال، ذكر بعظمة لسانه أنّه قد وافق عندما رأى أنّ أميركا قد رمت بثقلها العسكري في الحرب، حيث خشيت ــ على ما يبدو من انهيار الجيش الإسرائيلي، ولم تكن «ثغرة الدفرسوار»سبباً لتلك الموافقة، لأنّ السادات نفسه، قال عن «الثغرة» بكلّ وضوح وتحديد إنّه كان قادراً على تدمير القوات الإسرائيلية التي توغّلت، وإنّ القوات المسلحة المصرية كان لديها بدل الصاروخ الواحد لكلّ دبّابة توغّلت من «الثغرة» صاروخ آخر احتياطي وصواريخ كافية لإبادة القوات الإسرائيلية المتوغّلة عن بكرة أبيها.
وبهذه المقاييس فإنّ مؤسّسات البحث الاستراتيجية العاملة في مجال العلوم العسكرية، ورصد وتتبُّع قوة الجيوش العالمية أن تعيد النظر في معايير التصنيف التي تستخدمها لقياس قوة الجيوش العالمية، لأنّ «الجيش الفلسطيني» العرمرمي الجبّار والجرّار، ربّما أصبح الجيش الرابع أو الخامس عالمياً، طالما احتاج «حلف شمال الأطلسي» أن يشنّ عليه هذه الحرب الطاحنة، وقد تتحوّل قوات «حزب الله» في لبنان هي، أيضاً، ليكون تصنيفها الجيش الثالث أو الرابع عالمياً على أقلّ تقدير.
فقد أثبتت الحرب العالمية، و»الأطلسية» تحديداً على القطاع، أنّ على جيوش «حلف شمال الأطلسي»، وعلى جيش الاحتلال الإسرائيلي المصنّف خامس أو سادس جيش في العالم، أن يعيدوا حساباتهم حول معايير التصنيف الجديدة، وذلك لأنّ المعارك لا يتم ربحها في غرف العمليات، وقيادات الأركان المجهّزة بأحدث التقنيات، وإنّما يتمّ ربحها على الأرض، وفي الميدان، وفي المواجهة المباشرة.
وبما أنّ الحرب كما هو واضح، ومن دون أيّ مبالغة هي حرب عالمية، وفي صلبها «حلف شمال الأطلسي»، فإنّ الربح والخسارة فيها يتجاوز كثيراً، وأكثر بكثير مما تبدو عليه الأمور من على سطح أرض وميدان هذه الحرب، وفي هذه النقطة يكمن اللغز الحقيقي لهذه الحرب.
دعونا نستعرض فقط، وليس تحليل ومعالجة الجوانب فائقة الأهمية لهذا اللغز، لأنّ ذلك سيأتي لاحقاً في مقالات خاصة.
لم تعد الفترة الزمنية المتبقّية على إعلان نهاية هذه الحرب تتعلّق بالنصر أو الهزيمة، لأنّ من انتصر قد انتصر، ومن هزم قد هُزم، وما تبقّى من زمن الحرب مرتبط بالعمر الافتراضي للقيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وليس بالوصول إلى نتائج ميدانية حقيقية، ما يعني أنّ الحرب الآن تدور على مصير هذه القيادة بعد الدقيقة الأولى لوقف إطلاق النار.
وهذا الأمر بصورةٍ أو بأخرى ينطبق على الرئيس الأميركي جو بايدن، وعلى بعض زعماء «الغرب» من «النواة الصلبة» في «الأطلسي».
ولن يعود الجيش الإسرائيلي، ولن يقوى على استعادة هيبته، ولن تعود إسرائيل قادرة على ترميم قوّة الردع التي «كانت» لديها، ولن تعود الولايات المتحدة بنفس قدرتها على الهيمنة والتحكُّم، ولن يكون لـ»الغرب» أيّ مصداقية حقيقية في الجزء الأكبر من الكرة الأرضية.
لذلك فإنّ الحرب هي عالمية بامتياز.
وبإمكاننا القول إن العالم لن يتمكّن بعد اليوم من أن يتجاوز فلسطين، لأنّ فلسطين تجاوزت قدرتهم على تجاوزها، وهذا تغيّر كبير واستراتيجي كبير بمفاعيل إقليمية ودولية هائلة، وهي ــ أي الحرب ــ هي حرب إقليمية دولية بامتيازٍ أكبر.
هذه الحرب أنهت أيّ دورٍ عربي إقليمي فاعل، وتحوُّل النظام العربي إلى لاعب ثانوي إلى درجة أن «التطبيع» من عدمه لم يعد له نفس الأهمية التي كانت لهذا «التطبيع» قبلها، وربما أنّ «التطبيع» سيأخذ مساراً مختلفاً تماماً بعدها من زاوية أنّه قد تحوّل إلى عبءٍ أكثر منه «حاجة»، وأصبح صعباً ومكلفاً، وقليل العوائد والفوائد، هذا إذا لم نقل إنه أصبح يلحق الأضرار، ويحطّ من المكانة، ويقلّل من الأهمية، وينذر بأخطار كان النظام العربي في غنى عنها.
وأخيراً فإنّ هذه الحرب ربما تكون قد أنهت مشاريع «طريق الهند»، وأنهت الحرب في أوكرانيا، أو على وشك، وربما وضعت التوازن الدولي أمام معادلات جديدة كان البعض ما زال يراها مجرّد إرهاصات أوّلية، ناهيكم طبعاً عن إعادة بروز الدور الإيراني.
ولهذا كلّه فإنّ الحرب العالمية على قطاع غزة، الباهظة الثمن على شعبنا كله، سيكون لها الأثر المقدّر على الإنسانية كلّها، وسيقدّر العالم، آجلاً أم عاجلاً صموده في وجه هذه البربرية والهمجية على شعبٍ صغير كلّ ذنبه أنّه يطالب بجزءٍ يسير من حقوقه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد