صهيونيات غوش قطيف: بين ماضٍ من الزمان وآت

mainThumb

14-01-2024 01:38 PM

المشهد الذي انتشر سريعاً في أرجاء دولة الاحتلال الإسرائيلي، انتشار النار في الهشيم كما يصحّ القول، كان شريط فيديو يصوّر جندياً إسرائيلياً يحمل بندقية بيد وهاتفاً نقالاً باليد الأخرى، ويبعث برسالة إلى أهله وأصدقائه ومجتمع الاحتلال بأسره غالباً؛ يقول فيها، صوتاً وصورة: «أنا على شاطئ غزّة، في غوش قطيف».
وهذه، كما هو معروف، تسمية تجمّعٍ استيطاني أقيم على أراض فلسطينية محتلة، ضمّ 21 مستوطنة صغيرة أو متوسطة، اخترقت ساحل غزّة من جنوبه إلى وسطه، وسكنها قرابة 8600 مستوطن؛ قبل أن يقرر أرييل شارون تفكيكها في آب (أغسطس) 2005، ضمن إطار انسحابات أحادية من مساحات مختلفة في القطاع. وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، كان أوّل من احتفى بهذه الصورة وأمثالها، متفاخراً بأنّ «الشعب حيّ»، و»أنا أدعو إلى إعادة سائر القطاع»؛ وأمّا وزير التعليم يوآف كيش، الليكودي هذه المرّة، فصرّح بأنه «يمكن بالتأكيد إعادة الاستيطان في القطاع»، لأنه «لا يوجد وضع قائم ولا يوجد مقدّس».
وكي لا تنفصل صهيونية روّاد الاستيطان الأوائل عن الطبعات اللاحقة لصهيونية أمثال بن غفير وكيش، فتترابط وتتكامل وتعيد إنتاج ذاتها ومقولاتها، بصرف النظر عن مقادير الابتذال والهمجية والفاشية والأبارتيدية؛ توجّب، بالفعل، أن تعود صورة غوش قطيف إلى أوائل عهدها، لدى حركة «غوش إيمونيم» التي تأسست سنة 1974 بمبادرة من الحاخام موشي ليفنغر وتأييد عدد من الحاخامات وأعضاء الكنيست (من كتلة الـ «مفدال» آنذاك، أساساً)، بهدف مناهضة مشاريع الانسحاب من سيناء أو الضفّة الغربية، واستناداً إلى نصوص توراتية وتلمودية تحرّم ذلك الانسحاب.
ثم حدث أن عادت الحركة، أشدّ شراسة وتوحشاً، مع إعادة انتشار قوّات الاحتلال في قطاع غزّة، مكتسبة هذا الفارق الحاسم: لم يكن في باطن قطاع غزّة، المادّي أو الأسطوري، أيّ رموز توراتية أو تلمودية تبرّر شنّ الحرب المقدّسة ضدّ الانسحاب، ولم يكن في تخوم القطاع سوى حفنة مستوطنين متعنتين أخذوا يشكّلون عبئاً أمنياً وسياسياً ومالياً (نعم… وهذا تفصيل كان يهمّ دافع الضرائب الإسرائيلي مباشرة لأنه يفتح حافظة نقوده!).
عامل آخر حاسم لم يمكن لـ»غوش إيمونيم» أن تمزح فيه، هو أن تكون انسحابات غزّة أمثولة تمهّد لانسحابات أخرى من الضفّة الغربية؛ حيث «إسرائيل الكبرى»، وحيث تقع مدينة الخليل التي شهدت انطلاقة الحركة، وحيث قبر باروخ غودلشتاين سفّاح مجزرة الحرم الإبراهيمي 1994. لافت، إلى هذا، أنّ أبرز داعمي تلك الحركة في اعتمادها استراتيجية «تقديس» المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، واعتبارها بمثابة «قلاع من الرموز التوراتية» وليست البتة محض مساكن ومدارس ومتاجر، كان شمعون بيريس دون سواه: وزيراً الدفاع في حكومة إسحق رابين الأولى (1974ـ1977)، سنوات تأسيس «غوش إيمونيم» وذروة صعودها!
وفي سياق الإرشاد الديني حول أفضل دفاع عن مستوطنات «القداسة» تلك، دعا الحاخام إليتسور سيغيل إلى تنفيذ عمليات انتحارية ضدّ الفلسطينيين، عملاً بمبدأ البطل اليهودي شمشون؛ وفي مقال بعنوان «التضحية بالنفس من أجل الربّ»، كتب الحاخام: «الانتحار في زمن الحرب حلال إذا كان هدفه نصرة إسرائيل، والمتطوّع لأداء مثل هذه العمليات سوف يكون في عداد الأبطال والشهداء». ولا عجب أن سيغيل كان المشرف على الهداية الروحية في مستوطنة تابواه التي تحتلّ إحدى هضاب الضفة الغربية منذ عام 1967، وتقطنها أغلبية من أتباع الحاخام الأشهر مئير كاهانا ومجموعة «كاهانا حيّ».
والأرجح أنّ جندي غوش قطيف الإسرائيلي كان سيسعد أكثر لو أكتمل الفيديو بوقوف رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى جانبه، على الشاطئ الغزّي ذاته، يرطن بالوعيد التوراتي واستدعاء ما فعله العماليق بالإسرائيليين؛ فهنا، أيضاً، تترابط الصهيونيات بين ماضٍ من الزمان وآت، وتتكامل.

 

(القدس العربي)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد