محمد بني ياسين .. ناثر على خُطى شَاعِر

mainThumb

18-01-2024 03:45 PM

من سبعينيات القرن العشرين ومن تضاريس قرى شمال الأردن، ومن مزيج غريب يجمع قسوة الحياة مع رقة الأدب وجمالية سهول القرية المملوءة ألواناً والممتدة فوق الأحلام حتى تتداخل في الأفق مع أطراف السحاب التي تدنو تارة لتُقبل أديم الأرض الغنية بالعطاء والخصبة بالرجال وثم تعلو تارة فتحمل معها الأمل والسمو، امتد محمد بني ياسين صاحب كتاب "رائحة الطين" الذي ضم عدداً من النصوص النثرية المتميزة، ما بين بساطة وطيبة وعطاء ابن القرية الأردنية الحورانية الساحرة وبين التزام وصرامة ذلك الذي عاش مقاتلاً يمارس العمل اليدوي والفكري، فرسم الزمن تجاعيداً من الصرامة والجدية في مُحيَّاه ووهب ذلك له نظرات ثاقبة استطاع من خلالها اجتياز الحواجز والغوص في أعماق النفس البشرية، فخاطب مشاعرها ورسم منها لوحات نثرية غاية في الروعة تكاد تطاول بعض الشعر الموزون والمُقفى أو قد تفوقه صوراً وتعابير في أحيان عدة.
فكانت لوحات الجمال والقوة والهجر والحب والصرامة والإبداع تُزيِّنُ جدران كل نص نثري يكتبه، حتى أنه رسم فيها امتداد تضاريس سهول حوران وخصبها وصلابة وصعوبة منحدرات قرى الشمال الغربي الشفا غورية من مدينة إربد ومزج كل ذلك مع سمو وخيرات وتنوع الغور الأردني، فهو قد خالط طين هذه الأرض عندما تتسامى منه رائحة المطر بعد كل موسم وفير مبشر بالخير، ليكون بعد كل نص له قاتلاً صامتاً سلاحه النص النثري المُذَخَر بالكلمات المتناثرة المعاني والمتصل بمخازن من التعابير المُعَدَّةِ للانفجار.
المرأة رمز لكل شيء لدى محمد بني ياسين، فكما هي الأسطورة هي لديه رمز لانضباط الوقت ومقصد للسفر والخصب والجمال وهي رمز القصيدة والجراح والمسافات، يُسقِطُ ما يريد أن يقوله من خلال نسج ثوب رمزي يُلبسه للمرأة عبر حروف ما يكتب فيبهرك ذلك المزيج البلاغي المفكك والمترابط في نفس الوقت.
الثامنة وأنت
القلق الذي يسكن تفاصيل عقرب الثواني الذي توقف صدفة كي يشرب الماء
عطش هذا الصغير
او أنه يدعي الضمأ
اسرقي وسائدك النائمة في خزانة الليل
ربما اسافر اليك في الاحلام
ويقول في نص آخر:
تكممين أفواه القصائد
تلقين الصباح على الرصيف
ممتن لك
تمسكين أسراب الحروف التي ترعى في أودية القلب
انت إمرأة لا تعرف كيف تدور الرحى
كيف تطحن الحنين
كيف تخيط قميص الشوق
انت إمراة من طين ابيض
ولا شك أن من يقرأ أي نص من النصوص التي كتبها محمد بني ياسين يجد العديد من الإسقاطات الاجتماعية والسياسية والجمالية فهو يمزج بين كل ذلك بطريقة ذكية وإبداعية، يمر على ملامح الواقع في السوق والقرية والبيت ويوظفها في النص ليرسم لوحته الجمالية من خلال مزج تلك المعاني والذكريات كألوان الرسام المبدع لتشكل في النهاية لوجة تسر الناظرين.
كنت هناك
استر جسدي
افترش عُشب نيسان الذي مرَّ دون أن يُلق السلام
اعبث بخيوط الشمس الخجولة
افتعل ابتسامة
اسامر أشجار البلوط
ابحث عن ظلي الذي أبى أن يرافقني
سار خلفك مثل طفل الى السوق
إبتاع شعر البنات
ومضى يلهو
يكتب القصائد للصبايا
يقدم القهوة لهذة
يشعل لفافة تبغ لتلك
يمسك بضفيرتك كي لا يتوه وسط الزحام
انا ما زلت في المنفى
وانت تقايضين الحارس أن يمرر لي حفنة من وجهك
نيسان يا اول صواع القلب
واخر حنطة القصائد
ويقول في نص آخر:
أنا الآن وحدي إلا أنت
لا رغبة لي في تناول المزيد من الغياب
ما زلت أكتب الرسائل على أجنحة الطائرة الورقية
امسك بأول الخيط
ثم اتركها تطير نحو أعلى شجرة السرو
هذه الأغنية لك
والتي تليها لك
تعالي الليلة المقبلة
ستكون مقمرة إلى حد ما
أعيدي النعاس لي
انا ما عدت اسهرني ..!!

ومع كل نص من نصوص الأديب محمد بني ياسين نجد أننا في البداية ندخل في دوامة من الغموض في المعنى وسهولة في المصطلحات تسرقنا الحيرة فنسير في خطين خط التناغم البنائي للنص وخط التفسير والمعاني المقصودة منه، فهو يقارب ما بين السهل والمبهم وما بين الرمزية والوضوح في الطرح فيتنقل بمهارة وخفة بين الألفاظ التي يستخدمها خلال ما يكتب،
ربما ينتهي الأمر هنا أو هناك
أنا لا فكرة عندي كيف تموت الأشجار واقفةً
لا أعرف كيف ينقطع الماء
او كيف يكف عن معانقة الجذور
كي تصبح يابسة مثل وجهك الذي نسي أن يضحك
كيف لي أن اتمنى عناق صخرة
في أعلى الجبل
وكيف لي ان أخبرك انني اخاف المرتفعات
وانك شاهقة كثيراً كثيراً
وفي نص آخر:
جئت من أقصى المدينة أسعى
كنا قد افترقنا منذ أكثر من هلال
الثامنة صباحاً
آن لي ان اغتسل من كل ذنوبي
أنت أكبر الذنوب
في جيب معطفي كثير من الأشياء
ورد يابس
وخزانة مغلقة
اغنية بلا موسيقى فقط
ذاكرة مكسورة
نصف وعاء
عناقيد عالية
وقصيدة بلا ساقين ..!!
فلا يخلو أي نص من نصوص بني ياسين النثرية من تناص وتوظيف بديع للعديد من المفاهيم والمصطلحات ذات المعاني العميقة والتي ترمز لكينونة الحياة والبقاء وقصص الفلاحين والأنبياء وموروثنا الفكري المتنوع.
كأنك أخر مواسم المطر
آخر غيمة ستمر هذا العام
تطردين الشمس
تهطلين
تبللين فراء قلبي
تهدهدين ضجر أصابعي
كنتُ قد نسيت
كيف لي أن تنبت مواسم قمحي من دون عناق أخير
وكيف لك أن تمرين دون أن تتناولين
حبوب اللقاح
كيف سيُخلَق مطر للعام القادم
انا لا أترك سنيني عجافاً
أزرع هذا العام
وأنتظر أن تنجبي لي قصيدة بعد عام
ويكمل في نفس النص توظيفه لآيات القرآن الكريم وكأني به يقصد الآية الثامنة والخمسين من سورة يس "سَلامٌ قَوْلا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ"، ويوظف أيضاً قصة سيدنا يوسف الذي كان أميناً على خزائن الأرض بوصف من يخاطبها بأنها تملك ما يفوق خزائن الأرض وحتى ما يوجد في قارة أمريكيا الجنوبية والتي تعتبر المصدر الأصلي لصناعة السكر.
وكل عام اعانقني كي تأتين بعد العام
هذا المساء
مر طيفك في خاطري
سمعتك تتمتمين
تقرأين سورة يس
وفي آخرها تلقين على قلبي السلام
فالسلام على وجهك .. قلبك
قمحك المعبأ في خزائن يوسف
السلام على السكر الاسمر
كل السلام
كل السلام ..!!

وفي النهاية ،،، هي اضاءة بسيطة على بعض النصوص النثرية للأديب محمد بني ياسين الإربدي الحوراني فكراً وملامحاً وسلوكاً، ولا يمكن لبعض الصفحات والجمل الإحاطة بكل زوايا وتفاصيل نصوصه النثرية التي اخترت منها بشكل عشوائي بعض الفقرات فقط، فالأديب بني ياسين يكتب النثر بإحساس شاعر ويجيد ربط الواقع بالخيال ومزج المعرفة بالخبرة مع المخزون المشاعري العام، ويتنقل بالقارئ بين الحاضر والماضي في رحلة الكلمات الممتعة عبر قطار من الدهشة والإبداع، متمنياً له مزيداً من التميز والنجاح.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد