الصويرة

mainThumb

17-02-2024 01:05 AM

مملكة النوارس التي تتربع فوق قبب الفنادق والمنازل البيضاء ،كعلم سلام يرفرف في العلا، يختصر جوهر المدينة في رمز سيميائي، وعلى القصبات الطينية التي نشعر كأنها طمرت فيها ردحا طويلا من الزمن، وتوقفت عند عصر غابر، لتضعنا أمام مملكة تاريخية تحس فيها كأنك ممسك بالماضي وتطل على المستقبل المدفون بين طياتها ، تنتشر النوارس فوق الصخور البحرية التي يعلوها الخز، فيمتزج الأبيض بالتخضر والأزرق الفاتح..سلام وطبيعة وبحر، تتجول بين السفن الزرقاء المتراصة، فتختلط النوارس بالأسماك، ويكتسي الميناء منظرا بانوراميا خرافيا، تمتزج فيه زرقة السماء بزرقة السفن والبحر، لما تأفل النجوم تخلي مكانها للنوارس المتفرقة بين جزر السماء..لتضفي على المدينة سحرا ونغما وسلاما.

الصويرة مدينة الفن من دون منازع، يتدفق الفن في الطرقات، والمحلات، والساحات، وعلى الوجوه المشعة بفن الحياة، المشبعة بفن الطبيعة، وفن الانغماس، الانغماس في ثقافة المدينة حتى النخاع ، التماهي بالأصل والانصهار فيه، الصويريون هم أجزاء راسخة بأرض المدينة، قطع مطمورة بين تفاصيلها، فسيفساء لا تقبل التجزيء، والمدينة تشكلهم أرواحا فنية طليقة..

الموسيقى تتناثر بساحات المدينة وفنادقها، بمحلاتها ومقاهيها ، بسمائها وبحرها.. الموسيقى تسكن روح الصويرة، إنها المدينة الراقصة، المشبعة بكناوة وطقوسها، يتبع الكمبري نغم الأمواج، والقراقب تخطو خطى الحصان، والأرواح تراقص الرياح..إنه تشبث المدينة بالأصل، بالطبيعة، إن جذور الصويرة ضاربة في عمق الطبيعة، متشعبة بترابها..وأناسها أغصان ملتوية حول المدينة وأوراق ملتفة حولها، هكذا تتغنى الذاكرة الجمعية، الذاكرة الثقافية الفنية للصويرة.

أينما وليت وجهك تجد الألوان تغمر اللوحات التشكيلية ،التجريدية والواقعية والتكعيبية..، في الصويرة نحس بالرسومات، نلتقي بشخوصها ، ونتقاسم معها دهشتنا بالمدينة، نتحدث معها بلغة الفن، ولغة التأمل، ونغوص بأعماقها كأننا في حلم. استوقفتني لوحة للفنان محمد الطبال ألمني عنقي من طول التحديق بها ، أحسست بذبذبات تسري بين أعضاء جسدي، استقبلت طاقة رهيبة، أحسست بدمعي قد أوشك على السقوط، فغادرت المحل حاملة اللوحة بين ثنايا روحي، أما قلبي فقد دمجته في اللوحة كقربان إلى جانب كل الأفئدة المضمرة بها، التي تُحرك الرسمة وتجعل منها كيانا حيا نابضا يرسل للمشاهد ذبذبات الحياة ،كانت التفاصيلُ التي تغزو تلك المعجزةِ الفنيةِ رهيبةً، كانت قادرة على إخراجك من الصويرة والذهاب بك لعوالم فردوسية، إنها سيرورة من التفاصيل المتشابكة التي أوصلتني للدهشة بعدما ربطت خيوطها . يا لقدرة الفن! يا لعبقرية الفنان!

على شاطئ الصويرة، اقتربت من الصياد "با ميلود"، لعيش تجربة إنسانية جديدة، لم يكن باسما بل كانت ملامح وجهه الأصلية باسمة، تسكنه بسمة عميقة، ويكسوه سرور صادق، قضيت معه قرابة ساعتين ولم يصطد أي سمكة باستثناء واحدة صغيرة لا تصلح للبيع لذلك أطلق سراحها، لكنه كان منتشيا بهوايته، غير آبه بماتحمله صنارته، قال لي إنه يعيش حريته وحياته في الشاطئ رفقة صنارته بعيدا عن المجتمع..سافر بي "با ميلود" عبر الزمن لعصر غابر ، عصر القناعة ، البساطة، التعايش..ولكم تمنيت أن أعيش فيه! نوستالجيا حالمة للزمن الدفين، كان يشتغل بدرهم واحد لليوم، وبتلك الدرهم كانت تشتري والدته ريالين من البطاطس ، وريالين من الطماطم..ولكم ضحكت عند سماعي هذا! كان لطبق البطاطس الذي يوضع على شكل هرم بعدما يفترش "التقلية" طعما خاصا ، مهما تذوقت الأطعمة لن تجد مثل لذته، كان المغربي اليهودي "جاكوب" يعتبر "با ميلود" شخصا جالبا للحظ لذلك كان يحسن معاملته ويعطيه بعض الريالات والدراهم أحيانا..لما فتح "با ميلود" الصندوق الذي كان يجمع فيه المال لمدة سنة كاملة من أجل اقتناء خروف العيد، وجد اثنتي واربيعن درهما ويا لسعادته وقتذاك! لكن بعض الريالات في أسفل الصندوق التصقت ببعضها البعض كما أصابها الصدأ، فاشترى علبة مسحوق التنظيف بخمسة ريالات وشرع يحكها، لكن "جاكوب" قدم له مالا جديدا وأخذ المال القديم، كما أضاف له ثلاثة دراهم كعربون محبة. لكم تمنيت رؤيتك مجددا يا "با ميلود" !

الصويرة أغدقت على سكانها حبا وعلى زوارها حبا، فترى الأرواح تستقبل الحب بحب، لذلك كان المعلم عبد الفتاح مسرورا وهو يصنع الكمبري وألواح الشطرنج والصواني..لذلك كان الصياد با ميلود منتشيا بروح البحر والصيد، لذلك كانت المعلمة هند النعيرة وفرقتها يعزفون ويرقصون ويقرقبون في نشوة وحب، إنها المدينة التي لا تجذبك أفضيتها او تراثها..بل إنها تتجاوز ذلك بكثير، إنها تسمو وتعلو فوق كل الماديات، لتصل لدرجة الروحانيات، للصويرة روح ليست لكل المدن، للصويرة روح كروح الإنسان الذي نحب، روح تلامسنا ونلامسها.

كل فعل في الصويرة قابل لأن يصبح طقسا باعثا لطاقة رهيبة، السباحة في فصل الشتاء مع السادسة مساء، دون خلع ملابسك كمغامرة بسيطة لم تكن ضمن قائمة المخططات، والعودة للفندق بملابسك المبللة وانت ترتعش لذةً لا برداً، الوقوف أمام البحر ليلا مع الاستماع لموسيقى كناوة، والأمطار تتساقط على وجهك وشعرك، وانت ترتدي قلادة دريم كاتشر وقلادة أخرى من صدفات البحر ،تجاوز الشعور بالبرد، بعد الانصهار بحالة نشوة، القطط النائمة فوق الزرابي البربرية، أسطوانات غرامافون المتراصة، في مزيج بين الاغاني الغربية والشرقية والتراثية، شاب يغني أغنية عايشة قرب "باب السبع"، تحس كأن المدينة هي من تغني وأناسها يرقصون...كل هذه التفاصيل طبعت مدينة الصويرة بروحي كوشم أبدي لا يحمل أصواتا وصورا فحسب، بل يحمل طاقة وإحساسا وذبذبات.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد