التحَوّلاتُ فِيْ الثوَابِتِ
تُمَثِّلُ ظَاهِرَةُ التّحَوّلِ عَنْ مَوقِفٍ فِكريٍّ الى نَقِيْضِهِ أو عَنْ عَادَةٍ مُجْتَمعيٍّةٍ الى أُخْرَى أو الأنشِقَاقِ عَنِ تَنْظِيْمٍ معيّنٍ ظَاهِرَةً مَألوُفَةً في الأجْتِماعِ الانْسَانِيّ. فَمِنَ الجهْلِ، حَصْرُ هَذهِ الظّاهِرَة في ديْنٍ مُحدّدٍ أو مُجتَمَعٍ مُعيّنٍ أو تَنْظِيمَاتٍ بِعَيْنِها. لقَدْ حَدَثَتْ في التّاريخِ الأنسَانيِّ تَحوّلاتٌ دِينيّةٌ عدِيْدَةٌ انتَقَلَ فيْها الأشّخْاصُ مِنَ الألحَادِ الى الأيْمَانِ أو بَدَّلَوا الأعتِقَادَ بِدينِهم الى الأعتِقادِ بدينٍ آخَر. و انْشَقَّ العَديْدُ مِنْ أَنصَارِ التنْظِيمَاتِ العَقَائدِيّةِ الشّمُوليّةُ -الدّيْنيّةِ أو اليَسَاريّةِ- عنْ هذِه التنْظِيمَاتِ، و تَحوّلوا الى ضِدّها. و حدَثَ في اطَارِ المُجتَمَعِ كَكُلّ أنْ انْقَلَبَ أشّخاصٌ عَلى تَنْظِيمِهِم المُجتَمعِيِّ -القَبَليٌّ أو الزِّراعيٌّ أو الصِّنَاعيٌّ- و اتّخذُوا مَسَارَاً مُخَالِفَاً. و لَمْ تَسْلَم الجيُوشُ الوَطَنيّةُ و الأَحْزَابُ السِياسيّةُ مِنْ حالاتِ الأنشِقَاقِ عنْها. اذَنً، ظاهِرةُ الأنشِقاقِ في كَافَة أشْكَالِ التَنْظِيمَاتِ عنْ صُفُوفِها و التحوّلِ عن ثوابِتِها ظاهِرةٌ أنسَانيّةٌ تاريِخيّةٌ و ليْسَتْ عابِرَةٌ.
و لكِنْ عَليْنَا أنْ نُدْرِكَ أَنَّ هذهِ التحَوّلات أنْمَاطٌ متَنَوّعَةٌ و أيضاً لها أسْبَابُ مُتَعَدِّدَةٌ. و يَبْدو ليْ أَنَّ هذِهِ التحَوّلاتُ تَتَشَعَّبُ مِنْ حَيْثِ طَبِيَعَةِ المُنشَقْينَ عَنْ التنْظِيمَاتِ المُختَلِفَةِ -لا مِنْ حيْثِ طَبيِعَةِ التّحوّلاتِ ذَاتها- في ثَلاثَةِ مُسْتَوَيَاتٍ رئِيْسِيِّةٍ، و هي:
أوّلاً، تَحَوّلاتٌ على مُسْتَوى التَنْظِيمِ: أيْ يُغَيِّرُ التّنْظِيْمُ اتّجَاهَهُ العَامّ و مَوْقِفَهُ الكُليُّ الى وَضْعٍ مُغَايِرٍ تَمَامَاً. حيْثُ يَحْدُثُ انقِلابَاً وَاضِحَاً في رؤيَةِ التنظِيْمِ بَشَكلٍ عَامٍّ. يَبْرزُ هذِا النّمُوذُجُ في عِدّةِ أمثِلَةٍ، منْها: تحوّلُ حرَكةُ فَتْح الفِلسْطِينيّةِ منَ المُقَاومةِ الى المُسَاومَةِ، و تَحوُّلُ الحِزبُ الشيوعيُّ الصِّينيُّ الى تَقَبُّلِ المَسَار الرأسْمَاليّ، و انْهِيَارُ الوِحْدَة السُّوريَّة المِصْريّّة، و تحَوّلُ هيْئةُ تحْريرِ الشَّامِ في سُوريا مِنَ الغُلُوِّ الى الأعتِدَالِ.
تَتَعَدَّدُ الأَسبَابُ التْي تَنقُلُ التّنظِيمَ مِنْ حَالٍ لأخرٍ أو تؤدّي الى تَشَظّيِهِ أو انْهِيَارِهِ بالكَامِلِ. و هذِه الأسْبابُ بتَقدِيري هي:
[أ] أنْ يَنشَأَ التنْظِيمُ منذُ اللحْظةِ الأُوْلى لأَغرَاضٍ انتِهَازِيّةٍ مَصْلَحيّةٍ كالرغْبَةِ بالقِيادَةِ. فاذَا أدّى التَنْظيْمُ مُهِمّتَهُ في تحقِيقِ المَصْلحَةِ المَطلوبةِ و لَمْ يَعُدْ لوجُودِهِ حاجَةً، سَارَعَ المُؤسِّسُونَ الى حلِّهِ. و اذا أَدرَكَ قَادَتُهُ أنّهُ طرِيقاً فاشِلاً نحو تَحقِيِقِ مَطامِحِهِمْ الانتهازِيِّةِ، عَمِلوا على انْهَاءِهِ بالكَامِلِ أو احْدَاثِ تغْيِير جذْريّ بِهِ.
[ب] أنْ يَنشأَ التنْظِيمُ تحتَ سطْوةِ لحظَةٍ عَابِرَةٍ و ظُروْفٍ مُغرِيَةٍ، و في ظلِّ رغبةٍ ملحّةٍ آنيّةٍ طارئَةٍ لا تاريخيّةٍ مستَقِرّةٍ. أذْ يُؤسَّسُ التَنْظِيمُ على عَجَلٍ دونَ تَخطِيْطٍ استْرَاتيجيٍّ راشِدٍ. و حِيْنَما تَرحَلُ ظُروْفُ اللّحظةِ، و تَظْهرُ التحَدياتُ و المُستَجِدّاتُ المُعقّدَةُ التْي لمْ يُحْسَبُ حِسَابُها، عِنْدَئِذٍ قَدْ يتَشَظّى التنْظيمُ أو ينْهارُ أو يُجَدِّدُ رؤيَتَهُ.
[ث] أنْ تَتَشَابَكَ المَشَاكِلُ الدّاخَليّةُ للتنْظِيمِ معَاً. فقَدْ يَنْهارُ التنْظِيمُ أو يُغيُّرُ موقِفَهُ انْ اجْتَمَعَتْ فيْهِ مشَاكلٌ ادَارِيِّةٌ حَادّةٌ، و ضَعفُ الأستِقْلالِ المَاليّ للتنْظِيمِ، و انعِدَامُ الديِمُوقراطيِّةِ في اتِّخَاذِ القَراراتِ، و التبَايُنُ الشَّدِيْدُ في المَرْجِعِياتِ الفِكريِّةِ لقَادَةِ التنْظِيم و أعضَاءِهِ، و ضَعْفُ الوَلاءِ للتّنظِيمِ.
[ج] أنْ يَرَحَلَ جِيْلُ المُؤسِّسِيْنَ للتنْظِيْمِ الذيْنَ يتَمَسّكُونَ بالمَبَادِىءِ التأسِيْسِيِّةِ، و يَضْبِطُونَ التّنَافُسَ على القِيَادَةِ تَحتَ وِحدَةِ التنْظِيمِ. و يَتَولَّى القِيَادَةَ مِن جِهَةٍ أُخرى جِيْلٌ شَابٌ لَمْ يَعِشْ تَجارُبَ المؤسِّيسِنَ، و لَمْ يَتَشَرَّب مَبَادِىءَ التنْظِيْمِ كَجِيْلِ الأَباءِ، و يَطْغَى بَينَ هَولاءِ الشّبَابِ الحِرْصُ على القِيَادَةِ أكثَر مِن الحِرْصِ على وِحْدَةِ التّنْظِيمِ. و هذا الحَالُ قد يقُودُ مَعِ الوَقْتِ الى تشَظّي التنظِيْمُ أو تَغيِيرِ وِجْهَتِهِ أو انْهِيارِهِ كُليّاً.
[ح] أنْ يُجْري قَادَةُ التّنظِيمِ و أعضَاءُهُ مُرَاجَعَات فِكْرِيّة عمِيْقَة لمُجْمَلِ ثوابِتِهِمْ في ظَلّ مُعطَياتٍ فِكرِيّةٍ جَدِيْدَةٍ بحيْث يَقُودُ ذَلِكَ الى تَغييْرٍ جَذريّ فيْ ثَوابِتِ للتنْظِيْمِ. و قَدْ تكونُ المُرَاجَعَات نَاتِجَةً عَنْ التّفاعُلِ الدّوْريِّ معْ مُسْتَجَدّاتِ الوَاقِعِ ما يَدفَعُ نُخْبَةُ التّنْظِيْمِ الى أجْراءِ التّغيِيرِ الذي يَتَكَيَّفُ مَع مُعْطَيَاتِ الوَاقِعِ.
[خ] أنْ ينشَأَ التنْظِيمُ في بِيئَةٍ مُعَادِيَةٍ قويّةٍ مِنْ جِهَةٍ، و يَعَجزُ التنْظيمُ من جِهةٍ أُخرى عَنْ ادَارةِ عَناصِر قوّتِهِ بذَكاءٍ بحيْث يُوِجِدُ بيْئَةً أكثَرُ تقبُّلاً له. ما يُؤدّي الى حَلِّ التَنْظِيْمِ أو تَشَظيْهِ.
[د] أنْ يَحدُثَ تَحوّلٌ جَذرِيٌّ في طَبيِعَةِ مَكَانَةِ وَ دَوْرِ التنْظِيْم مَا يَدْفَعُ الى تَحوّلٍ مُوَازٍ في وِجهَةِ التنْظِيمِ ذَاتِها. فَقْد يكُون التَنْظيْمُ وِحدَةً مُنَظّمَةً صُغرَى لأنْجَازِ هَدَفٍ مُحَدّدٍ مثِل دَحْرِ الأحتِلالِ للوَطَنِ ثُمّ يتَحَوّلُ التَنْظيْمُ الى سُلطَةٍ حَاكمَةٍ قَبْلَ انْجَازِ التّحرِيْرِ كَحَركَةِ فَتْح أو بَعْدِ تَحقِيقِ الغَايَةِ كَحَالِ هيئَةِ تَحْرِيرِ الشّامِ في سُوريا. و بِذا، يَصيْرُ التّنظِيمُ أمَامَ واقِعٍ جَديِدٍ؛ يَتَكَيَّفُ مَعَهُ بِحَلِّ نَفسهُ أو تَغيِيرِ رؤيَتهِ.
[ذ] أنْ تَتَغَلغَلَ جِهَاتٌ خَارِجيٍّةٌ مُعَادِيَةٌ في التنْظِيْم و تَتَلاعَب باجْرَاءَتِهِ الدّاخِليّةِ و قَرَارَاتِهِ و غيْر ذَلكَ الى أنْ تَنْجَح في حَرْفِ التنْظِيمِ عن مسَارِهِ العام أو الأجْهَازِ عليْهِ.
تَجدُرُ الأشَارَةُ أنّهُ قَدْ يَبْرُزُ دَوْرُ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الأَسبَابِ السّابِقَةِ في احْدَاثِ تَحَوّلٍ لِتّنْظِيْمٍ مُحَدَّدٍ عَنْ ثَوابِتِهِ. و لَكِنْ هَذا لا يَعْني أَبَدَاً غِيَابَ الأَسْباب الأُخْرى. فَفيْ الوَاقِعِ، تُسَاهِمُ عِدَّةُ أَسْبابٍ معاً في تَشَظّي التنْظِيمِ أو تحوّلِ مُعتَقداتِهِ أو انْهِيارِهِ كُليّاً. و لابُدَّ مِنَ التّنْبِيِهِ أيْضاً الى أنّ تحَوّلات التّنْظِيمِ عَنْ ثَوابِتِهِ قَد تكونُ اجْرَاءٌ تَكْتِيْكِيٌّ -لا اسْترَاتِيِجيٌّ- بَهَدَفِ مُوَاجَهَةِ ظُروْفِ المَرْحَلةِ ثُمّ يعُودُ التّنظِيْمُ الى ثَوابِتِهِ التّأسِيْسِيَّةِ بَعْدَ تَجَاوُزِ المَرْحَلة. و قَدْ يكونُ التحوّلُ جُزئِيّاً؛ يَطَالُ بَعضَ الثّوابِتِ دوْنَ غَيْرِها، و قَدْ يكُونُ التحَوّلُ كُليَّاً؛ يَشْمَلُ كُلَّ الثّوابَتِ.
ثانيّاً، تحوّلاتٌ جَمَاعِيّةٌ: أيْ أنْ يَتَحوَّلَ جُمُوعُ النّاسِ بنحوٍ طبيْعِيٍّ عَنْ مَواقِفِهِمْ و عَادَاتِهِمْ الرّاسِخةِ الى مَواقِفٍ و عَادَاتٍ أُخْرَى. يَتَجَلّى هَذا النّمَط في تَبَدُّلِ عَادَاتِ النَّاسِ في اللِّبَاسِ و الأَفْرَاحِ و الأَتْرَاحِ و غَيْرِهَا. فيْ الأَريَافِ خَاصّةً، كَانَ لِبَاسُ الأنَاثِ طوِيِلاً مُحْتَشِمُاً و صَارَ لِبَاسُ البِنْطَالِ للأِنَاثِ مقْبُولاً بَعْدَما كَانَ مُحَرّمٌ. كَانَ يُوْلِمُ العَرِيسُ في عُرْسِهِ لِكُلِّ أَهلِ قَرْيَتِهِ و غَيْرُ ذَلِكَ يُعَدُّ عَيْبَاً و صَارَ مَقبُولاً أنْ يَعْمَلَ العَريْسُ عُرْسَهُ في صَالَةِ أَفْرَاحٍ و عَلى نِطَاقٍ أُسَريّ ضَيِّقٍ. كَانَ مِنَ الحَرَجِ اجْتِمَاعِيّاً أنْ تَأخُذَ الأُنْثَى مِنْ وِرثَةِ أَبِيهَا و صَارَتْ الأِنَاثُ تأخُذْ حَقَّهَا كَامِلاً بَكُلِّ ثِقَةٍ. و كَانَ مِنْ المُخْجِل اجْتِمَاعِيّاً أنْ تَدْرُسَ الأُنْثَى في الجَامِعَةِ مَعَ الشّبَابِ و صَارَتْ كُلُّ الأنَاثِ تقْرِيْباً يَدْرُسْنَ في الجَامِعَةِ. لمْ تَكُنْ عادَةُ شِرَاء الطّعَامِ الجاهِزِ مَقْبوْلَةً في الأَريَافِ و صَارَتْ هذِه الأَيام شِائِعَة. كَانَ الغَضَبُ شَدِيدٌ على المَرأَةِ التي تُنْجِبُ أُنْثَى و صَارَ الأَمْرُ أكْثَر قَبُولاً هَذِه الأَيامِ. و لَمْ يَكُنْ انْجَابُ عَدَدٍ قَليْلٍ مَنْ الأَبْناءِ أمْراً مَقبولاً و صَارَ شائِعَاً.
يُمْكِنُ ايْجَازُ أبْرز الأسْبَابِ التي تؤَدّيْ الى تَحوّلاتٍ جَمَاعِيّةٍ طَبيْعِيّةٍ بالأَتي:
[أ] أنْ تَتَغَيَّرَ الظُّرُوفُ الحَيَاتِيّةِ للنّاسِ كَوسَائِلِ تَوَاصُلِهِمْ و تقَنيّاتِهِمْ التكْنُولوجِيّةِ أو أَحوَالِهِمْ الأقتَصَادِيّة أو سُلْطَتِهِمْ السّياسِيّةِ و القَوانِينِ النّاظِمَةُ لشِؤوْنِهِمْ تَغَيُّراً جَذْرِيّاً. حَيْثُ يَمسُّ هَذا التغَيُّرُ حَيَاةَ النّاسِ بِشَكلٍ مُؤثِّرٍ و مُبَاشِرٍ، و يَتَعَزّزُ بِتَوجِيْهِ قَادَةَ الرّأيِّ و النُّخَبِ في المُجْتَمَعِ. و هَذا مَا يْدفَعُ النّاسَ -مِنْ أَجْلِ التكَيُّفِ مع المُتَغَيّراتِ- الى التحَوّلِ في مَواقِفِهمْ و عَادَاتِهِمْ. أيْ تَنْشَأُ مِنْ وَاقِعِ النَّاسِ المَادِيِّ حِكْمَةٌ جَمَاعِيَّةٌ -تُغَذّيْها نُخْبَةٌ مُسْتَنِيْرَةً- تَقُودُ الى تّحوّلٍ جَمَاعِيّ في وَعْي النّاسِ و سُلوْكَاتِهِمْ. و أُقَدِّرُ أنّ هَذا السّبَبُ الذْي يُزاوِجُ بيْنَ الوَاقِع المَادِيّ و اسْتِنَارَةِ النُّخْبَةِ هو أَقوَى الأسْبَابِ في أحْدَاثِ التَغَيُّرِ الجَمَاعِيّ.
[ب] أنْ تَنْجَحَ قُوّةُ الفِكْرِ و سُلْطَةُ المُفَكِّرِيْن في التّأثِيْرِ على وَعْي النَّاسِ و تَغْيِيْرِ قَنَاعَاتِهِمْ و عَادَاتِهِمْ المُسْتَقِرَّةِ. أيْ تَأتِيْ الحِكْمَةُ الجَمَاعِيْةُ مِنْ البِنَاءِ الفَوقِيْ الفِكْرِيّ للمُجْتَمَعِ. وَ أُنَبِّهُ الى أنَّ هَذا الطَّرِيق الفِكْريّ النُّخْبَويّ يَظَلُّ -بِتَقدِيري- ضَعِيْفَ التّأثِيِرِ على احْدَاثِ التّغَيُّرِ في الثَّوابِتِ الجَمْعِيّةِ ما دَامَ بَقِيَ مُرْتَهِناً لِلفِكْرِ النّظَريِّ فقَطْ بَعِيْداً عَنْ حَيَاةِ النّاسِ. و لَكِنْ يَكْتَسِبُ الفِكْرُ -النّاتِجُ عن التّأمُّلِ العَقْليّ و البَحثِ العِلمِي-سُلطَةً اضَافِيّةً مُؤثِّرَةً كَبِيْرةً اذا امْتَزَجَ بِقُوَى مُجْتَمَعِيَّةٍ فَاعِلَةٍ. و مِنْ ذَلِكَ، أنْ تَتَبَنّى وَسَائِلُ تَشْكِيْلِ الوَعي العَامّ -الأُسْرَة، الأعْلام، المَدْرَسَة، دُوْر العِبَادَةِ، دُوْر الثّقَافَةِ...الخ- أَفكَارَ المُفَكِّريْنَ و تَجْعَلُها ثَقَافَةً يَومِيّةً. و تَزدَادُ سُلطَةُ الفِكْرِ قُوَّةً اذا وَجَدَتْ لها بِيئَةً واقِعِيّةً مُنَاسِبَةً لِلتَطْبِيِقِ كَأنْ يَتَحَوّل الفِكْرُ الى تَشْرِيْعَاتٍ نَاظِمَةٍ.
[ت] أنْ يَنْفَتِحَ النّاسُ على تَجَاربٍ و خِبْراتٍ جَدِيْدَةٍ عِنْدَ الأُمَمٍ الأُخْرى و أنْ يَحْتَكُونَ مَعَها بِعُمْقٍ. مَا يَدْفَعُ النّاسِ الى اجْرَاءِ مُرَاجَعَاتٍ واعِيَةٍ لأَفْكَارِهِمْ و عَادَاتِهِمْ تُوازِنُ بيْنَ مَا لَدَيْهِمْ و مَا لَدَى غَيْرِهِم مِنْ رؤى و مُمَارَسَاتٍ.
[ث] وَ قَدْ يَحْدُثُ التحَوّلُ الجَمْاعيُّ عَنْ طَرِيقِ تَقْلِيْدِ الأُمَمِ خَاصّةً المَغْلُوبَةِ للأَمَمِ الأُخْرى خَاصَّةً الغَالِبَة. اذْ تُؤَدّي مُجَارَةُ المُوضَةِ و اتبَاعُ الشّائِعِ دَوْراً مَلْحُوظَاً في التغيُّرِ الجَمَاعِيِّ.
ثالثِاً، تحوّلاتٌ فرْدِيّةٌ: و تَعْنِي تَحَوُّلُ الشَّخْصُ بِمُفْرَدِهِ مِنْ مَوقٍفٍ الى مَوقِفٍ مُنَاقِضٍ أو رؤيَةٍ الى أُخْرَى. تَشْمَلُ أيْضَاً تَخَلّيْ الشَّخْصُ عَنْ تَنْظِيْمِهِ -باعْتِبَارِهِ أَحَدَ ثَوابِتِهِ الهَامَّةِ- و الأنْشِقَاقِ عَنْهُ.
بِتَقدِيِرِي، تَتَمَثَّلُ أَسْبَابُ التحَوّلِ الشَّخْصِيِّ بِالأتي:
[أ] أَنْ يُضْمِرَ الشَّخْصُ غايات انْتِهازِيّةً مَنْفَعِيَّةً مِنْ انتِسَابِهِ للتنْظِيمِ. حَيْثُ يَنْشَقُّ هَذا الشّخْص عَن التّنْظِيمِ حِيْنَ يُحَقِّقُ مَصْلَحَتَهُ الذّاتِيّةَ أوْ حِيْنْ يَكْتَشِفُ بِعَدَمِ جَدْوَى الأنْتِسَابِ في ايْصَالِهِ الى مُرَادِهِ بعدمَا صَارَ مَعروْفاً بِهِ.
[ب] أنْ يَنتَسِبَ الشَّخْصُ لِلتّنْظِيْمِ فِي لَحْظِةِ انْفِعَالٍ و حَمَاسٍ مُفْرِطٍ و بِتَأثِيْرِ ظُروْفٍ اَنِيّةٍ ضَاغِطَةٍ. و يَنْخَرِطُ بالتّنْظِيْمِ بِعُمْقٍ كَيْ يَنْصَهِر بِرؤيَتِهِ و يَسْعَى الى حَشْدِ النّاسِ لِلتّنْظِيْمِ و رؤْيَتِهِ. و لَكِنْ بَعْدَ زَوَالِ تِلْكَ الحَالَةِ الأنْفِعَالِيِّةِ، و اصْطِدَامِهِ بِكَثِيْرٍ مِمّا لا يَسُرُّهُ أو يُقْنِعُهُ في التّنْظِيْمِ، ينْشَقُّ غَالِبَاً عَنْ هَذا التّنْظِيْمِ.
[ت] أنْ يسْلُكَ التنْظِيْمُ مسْالِكَاً مُناقِضَةً لِثوابِتِهِ. مَا يَدْفَعُ المؤمنِينَ بالتنْظِيْمِ الى التّشَكُّكِ فيْ اسْتِقَامَةِ التنْظِيْمِ و نَزَاهَتِهِ. و مَعْ تِكْرَارِ حَوَادِث الأنْحِرَاف عن الثّوابِتِ، يَفْقِدُ التّنْظِيْمُ المِصْدَاقِيّةَ فِي نَظَرِ أَعْضَاءِهِ المُخْلِصِيْنَ، فَيَنْقَلِبونَ عَلى تَنْظِيْمِ. و مِنْ ذَلِكَ، فَقَدَ أُنَاسٌ الثِّقَةَ بأَحزَابٍ و تَنْظِيْمَاتٍ عِدّةٍ لأَنَّهَا أَيَّدَتْ الحَرْبَ الوَحْشِيِّةِ لِكَيَانِ الأحْتِلالِ ضِدّ أَهْلِ غَزّة و هيَ دَوْمَاً تُنَادِي بالحُريِّةِ و العَدَالةِ و حُقُوقِ الأنسْانِ، و تُمَارِسُها حَقَّاً و تَجْتَهِدُ لأجْلِهَا و لكنْ فِي مَوَاضِعٍ و حَالاتٍ أُخْرى. مَا اضْطَرُّهُمْ الى الأنْشِقَاقِ عَنْ تِلْكَ الأَحزَابِ و التَنْظِيْمَاتِ.
[ث] أنْ يَتَّصِفَ العُضْو في التّنْظِيْمِ بالتصَلُّبِ في أرَاءِهِ و عَدَمِ المُروْنَةِ في تَقَبُّلِ أرَاءِ الأخَريْن دَاخِلِ التنْظِيْمِ. فَاذَا عَجِزَ هَذا الشَّخْصُ المُتَشَدِّد عَنْ تَطْويعِ مُجْمَل سيَاسَاتِ التنْظِيْمِ وفْقَ رؤاهُ الخَاصَّةِ عَجْزَاً تامَّاً، يَجِد مِنَ الصّعْبِ الأسْتِمْرارِ في بِيئَةٍ مُضَادَّةٍ لَه. ما يَدْفَعُهُ الى الأنْشِقاقَ عَن التنْظِيْمِ، و قَدْ يُعَادِيه.
[ج] أنْ تُسَيْطِرَ فِئَةٌ معيّنةٌ عَلى التنْظيِمِ مِنْ حيْثِ المَنَاصِب الدّاخِليّةِ و صُنْع القَرَارَاتِ. اذْ يُصْبِحُ التنْظِيْم في حِيَازِةِ لهذِه الفِئَةِ التي يَصّعُبُ اخْتِرَاقُها أو تَجَاوزُها. يَشْعُرُ عِنْدَئِذٍ بَعضُ الأَعضَاءِ بِعَدَمِ الجَدوَى مِنَ الأسْتِمْرَارِ في التنْظِيْمِ. و بِذَا، يكُونُ خَيَارُ الأنشِقَاقِ عن التنْظِيْمِ هو الخَيَارُ الأنْسَبُ لَهُم.
[ح] أنْ يَلتَمِسَ الشَّخْصُ بَيْنَهُ و بيْن قِيَادِةِ التنْظِيْمِ و مُجْمَلِ نُخَبِهِ تَبَايُناً مَعرِفِيّاً هَائِلاً أو فَجْوَةً كَبِيْرةً في فَهْمِ تَعْقِيْدَاتِ الوَاقِعِ. حَيْثُ يَشعُرُ هَذا الشَّخْصُ بالغُرْبَةِ و العُزْلَةِ دَاخِلَ تنْظِيْمِهِ. و مَعْ تَعْقِيْدِ التّبايُنِ و صُعوْبَةِ تَقْرِيِبِ الرؤى، يَنْشَقُ هَذا الشّخْص عَن التنْظِيْمِ. و قَد يُنْشِأُ تَنْظِيماً جَدِيْداً برؤى و سِيَاسَاتٍ جَديْدَةٍ.
[خ] أنْ يُرَاجِعَ الشَّخصُ ثَوابِتَهُ و رؤاهُ مُرَاجَعَةً عَمِيْقَةً سواء في نِطَاقٍ فكريّ تَأَمُّليّ أو نَطَاقِ التجْرِبَةِ العَمَليّةِ. ما تُؤدِّي بِهِ الى تَغيِيْرِ رؤيَتهِ. لقدْ وَصَلَ الكَاتبُ اليَهُوديُّ آفي شتَاينْبِرغ مثلاً بعْدَ تفكِيِرٍ و تَجاربٍ حيّةٍ الى عدَمِ شرعيّةِ كيانِ الأحْتِلالِ ما دَفَعهُ للتَخَلّي عن جنْسِيَّتِهِ لأنّها -كَما وَصَفَها- أدَاةُ أبَادةٍ و أجْرَامٍ. و تحَوّلَ انتُوني فلو و جيْفري لانج من الألحَادِ الى الأيمانِ بوجُودِ آله للكَونِ بعدَ تفكِيْرٍ و مرَاجعَاتٍ عميقةٍ.
[د] أنْ يَخْشَى الشّخْصُ مِن المُلاحَقَةَ الأمنِيةِ أو تَهْدِيْدَاتٍ مِنْ جِهاتٍ مُخْتَلِفةٍ. ما يُؤدّي بِهِ الى الأنفِصَالِ عَنْ تَنْظِيمِهِ.
في الخِتامِ، أجْتَهدْتُ في تَبيِينِ التحوّلاتِ عنْ الثّوابِت و الأنشِقَاقِ عَنْ التنْظِمَاتِ مِنْ حيْث مُستَوياتِها الثّلاث و أَسْبَابِها. و لا أَدّعيْ أنّنِي قَدْ أحَطْتُ بِهذَا المَوْضوْعِ بِكُلِّ تَفَاصِيْلِهِ. فَهو مَوضُوعٌ مُعقّدٌ و تَتَشَابَكُ فيْهِ مُتَغَيّراتٌ مُتَعَدِّدَةٌ. أَمَلِيْ أنْ أكُونَ قَدْ نَجَحْتُ في عَرْضِ صُورَةٍ وَافِيَةٍ عَنْ التحوّلاتِ و الأنشِقَاقَاتِ في التّنظِيمِ كَكُلّ أو المُجتَمَع أو عِند الأفْرَادِ. و أَمَليْ أنْ يُثِيرَ هذا المَقَالُ القُرّاءَ لِلبَحثِ في هَذا المَوضُوعِ و تَعْمِيِمِ نتَائِجِهِ.
صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية يطلق برامج دعم جديدة
فيروس الروتا: الأعراض والوقاية
رئيس الوزراء يوجه لمتابعة حادثة الاعتداء على الصحفي الحباشنة
مجلس الأعيان يتبرع بـ 50 ألف دينار دعماً للنشامى
جنوب شرق آسيا تستثمر صراع الذكاء الاصطناعي
الإنتهاء من مشروع توسعة وصيانة طريق عنجرة - عجلون
الأردن وسوريا يبحثان التعاون في الحماية الاجتماعية
التسعيرة المسائية للذهب في الأردن .. تفاصيل
أجهزة السمع تقلل الشعور بالوحدة
المعايطة والصفدي يبحثان تعزيز التحديث السياسي المشترك
مبابي يواجه سان جيرمان في نصف نهائي الأندية
حبس وغرامة تصل لـ 500 دينار لمرتكب هذه المخالفة
مطالبون بتسديد أموال مترتبة عليهم لخزينة الدولة .. أسماء
وقف ضخ المياه عن مناطق في المملكة .. أسماء
الأشغال تدعو مرشحين للإمتحان التنافسي .. تفاصيل
مهم بشأن ارتفاع أسعار اللحوم والزيوت ومنتجات الألبان
1039 قطعة أرض للمعلمين في سبع محافظات
بحيرة طبريا تقترب من أسوأ مستوى في تاريخها
التسعيرة المسائية للذهب في الأردن .. تفاصيل
التربية .. بدء استقبال طلبات التعليم الإضافي الخميس
الحكومة تمنح قروضاً بلا فوائد لهذه الفئة
منح الجنسية الأردنية لكل مستثمر يعمل على تشغيل 150 عاملاً أردنياً
محافظ الكرك يوقف برد الشفا بسبب منشور الكحول
وفد سوري يزور محطة الباص السريع في عمّان .. صور
بتوجيهات ملكية .. طائرة إخلاء طبي لنقل عائلة أردنية من السعودية