تراجيديا [البُغْية] هوية قسنطينة الفنِّية

mainThumb

22-01-2025 10:34 PM

لو افترضنا أن هذه القصة وقعت بين أنامل شكسبير، لحولها إلى تراجيديا في الحب المستحيل، تنهض ضده كل الموانع الاجتماعية والدينية والنفسية، كما فعل مع روميو وجولييت التي أصبحت مرجعاً في التراجيديا بعد العصر الإغريقي. فأول ما اصطدم بالحكاية الإيطالية التي كتبها لويجي دار بورتو [روميو وجولييت] من خلال الترجمة التي أنجزها آرثر بروك في 1536، حتى ركض شكسبير إلى تحويلها إلى نص مسرحي في 1591، وأصبحت تراجيديا إنسانية عظيمة مشاعة، لا تعترف بالزمن، لا زمنية، محت حتى كاتبها الأصلي. فقصة [البوغي أو البوغية أو البغية] تعيش بيننا على الأقل منذ قرنين من الزمن، ومع ذلك تظل مروية شعبية بين الناس، قد تموت ذات زمن. لا توجد أي تجربة فنية ارتفعت بها نحو التراجيديا (باستثناء فيلم البوغية لعلي عيساوي، ودراسة الدكتور هيشور الكبيرة وغيرها، وأعمال مبعثرة هنا وهناك…).
أفضل تسمية [البُغية] كما ذكرت في القصيدة، بدل [البوغي]؛ فهي الأقرب إلى النعت القسنطيني الذي كان يطلق على الشيء المراد، أو ما نبغيه، أي ما نشتهي الحصول عليه ونريده. تقول بعض الدراسات التي اعتمدت المرويات الشعبية إنه كانت في قسنطينة عادة سنوية تخرج فيها نساء الأكابر بعد ارتداء الملاية، يزرن الصنائعية في المدينة القديمة ويأخذن منهم قسطاً من المال، يوزعنه في نهاية اليوم للفقراء. العادة انقرضت اليوم. للأسف، باحثونا لم يعطوا لمثل هذه التفاصيل حقها إلا نادراً، من خلال الأبحاث العميقة وليس الفرضيات فقط، لحسم معارك التسميات التي قد تقودنا في طريق الخطأ. القصيدة، بوصفها المصدر الوحيد، لا تقول ذلك. القصيدة في محتواها وموضوعها، شبيهة إلى حد ما بما نعرفه عن [حيزيا] وقصتها مع سعيد (ابن قيطون؟) (وقد غناها العديد من الفنانين الجزائريين، أولهم خال الخليفي أحمد في الثلاثينيات من القرن الماضي، والخليفي أحمد نفسه، والبار أعمر، والشيخ عبابسة، ودرياسة وغيرهم على النمط الصحراوي). هناك فارق زمني محدود، تقريباً بينها وبين البوغية. فقد نشأت في نهايات القرن الثامن عشر، وبداية التاسع عشر، أي في الفترة العثمانية والفرنسية، بين نجمة بنت الحسين، سليلة السادات، وعقيلة البايات، وجاب الله بن ساعد البوني، (غناها الشيخ ريمون القسنطيني، والشيخ الفرقاني على نوع المالوف، وتبعهم جيل حديد على رأسهم عباس ريغي). فترة الاحتلال العثماني شهدت ميلاد العديد من الحكايات الشعبية المكتوبة بالعربية القريبة جداً من العامية مثل [حكاية العشاق في الحب والاشتياق] لمحمد بن إبراهيم بن مصطفى باشا (1806-1886)، وهو آخر أمير من دايات الجزائر. قصة شبيهة بهذا النوع، حققها الدكتور أبو القاسم سعد الله واعتبرها بعض النقاد أول رواية عربية، وهي لا تعدو أن تكون حكاية، وقد تكون مروية حقيقية في الأصل. لم يتناول البحث الأكاديمي بهذا المنظور. العاشق في [البُغية] هو الشاعر نفسه، يروي فيها لوعته وحبه ويرثي نفسه لأنه بالفعل سيقتل في نهاية القصة، جريمة شرف من أفراج عائلة نجمة. في وقت أنه في قصة [حيزية] تم الفصل بين سعيد العاشق فقط، الذي طلب من صديقه الشاعر محمد بن قيطون أن يكتب عن حبيبته (زوجته) مرثية تخلدها. لكني في بحثي الخاص وصلت إلى حقيقة أن العاشق الحقيقي هو ابن قيطون وليس سعيد. وهو ما أكدته لي الكثير من مرويات المناطق الدنوبية التي زرتها بحثاً عن فرضية الشاعر هو نفسه العاشق.
ويبدو واضحاً من خلال بعض المصادر التاريخية والمرويات الشعبية أن [البُغية] أو اللقاء الأول تم في احتفالية شعبية يتحرك فيها المجتمع النسائي الشعبي بحرية مقبولة مجتمعياً، تقوده واحدة من شريفات العائلات القسنطينية الكبيرة، اللواتي خرجن في [البُغْية] لمساعدة الفقراء، كما ذكرنا. يمررن على البيوت والمحلات الميسورة التي تكون قد حضرت ما زاد عليها للتصدق به.
كانت نجمة، وهي من سلالة الدايات العائلات الكوروغلية الغنية، على رأس المجموعة النسائية. تلتقي نجمة بالصدفة بالشاعر التروبادور جاب الله بن ساعد البوني، الذي كان يعمل طرازاً في محل خياط يهودي كبير (بحسب بعض المرويات). أول ما رآها أصيبت بها، ثم وعدها بأن يطرز لها لباساً جميلاً في مقامها. أخذ القياسات، وساهم ببعض المال للفقراء. ظل عالقاً بها ومرتبطة به أيضاً. وبواسطة خادمتها استطاعت أن تلتقي به مرات عديدة. وكان جاب الله زجالاً مميزاً وله صوت ساحر.
يغني قصائده بنفسه. وكان يُدعى في الكثير من المناسبات لينشط بعض السهرات. وعندما انتهى من إنجاز اللباس القسنطيني المطرز، وأوصله لها عن طريق خادمتها التي كانت تضبط مواعيدهما. رفضت في البداية استلامه لأنه بدا لها غالياً، فقال لها هذه أمنيتي ورغبتي، أرجو أن تقبلي مني هذه الهدية. قالت له هذا يكلفك كثيراً؟ فقال: هذا شغل يدي، استدنت قليلاً ولكنني سأدفع لسيدي الذي أشتغل عنده بالتقسيط، وقلت له هدية لأختي في عرسها. فزاد ارتباطها به. ما كان مجرد صدفة أصبح قصة حب حقيقية وسديدة الخطورة. أصبحت تلتقي به كلما سمحت لها الفرص بذلك في بيت صديقه الحميم. ونشأت قصة حب عاصفة اخترقت التقاليد والطبقية بين سيدة قصر وشاب ابن حمّامجي.
وظلت اللقاءات شديدة السرية. إلى يوم كان سهراناً مع بعض أصدقائه في جلسة تدخين الكيف والشرب، على حواف المدينة، حيث يتفاخرون بعشيقاتهم. وبدأ كل واحد يقص قصته عن حبيبته ويرمي في عمق الصينية «الرشقة» شيئاً منها، قنينة عطر، محرمة، خاتماً أو سلسلة ذهبية، إلا هو قال إن حبيبته من علية القوم ولا يملك منها شيئاً، ولكنه وعد بعرض شيء لها. ركض نحوها وقال لها عن اللعبة، فرمت له بخصلة شعر مضفورة بشيء معشق بحجرتين كريمتين. وفي الجلسة الجماعية رمى في الصينية الخصلة، والحزام الذي أدهش الجميع حتى وصل إلى أحد الوشاة الحاضرين، فأوصل الخبر لزوجها (أو لوالدها).
انتبه صديقه لحركة الرجل، فطلب من جاب الله الاعتذار من الجلسة والهروب، لأنهم إذا عثروا عليه سيذبحونه. تخفى في إحدى الزوايا، وفي الصباح غادر نحو مسقط رأسه، عنابة. تخفى هناك مدة ثلاث سنوات. لم تتحمل نجمة غيابه، فدعته برسالة فيها ملامة كبيرة أن يحيي حفل ختان ابنها، فلم يتردد. وهبّ مسرعاً نجو قصرها بفرقة مكونة من عشرين فناناً انسحبوا عند الباب عندما تحسسوا الخطر. بعثت له خادمتها لتوقفه عند الباب، حتى لا يصبح تحت رحمتهم، لكنه رفض هو وصديقه الأوحد الوفي. وغنى ليلتها قصيدته [البُغْية] التي ذكر فيها اسم نجمة.
فقتل طعناً، بينما رمت هي بنفسها من الطابق العلوي للقصر وفي يدها ابنها المختون. وامتزج دمهما. قصة عشقية عظيمة لم تجد حتى اليوم الاهتمام الذي يليق بها ويرتفع بها عالياً نحو المقام الذي تستحقه، ولا لوحة مثلاً، أوبرا، دراما حقيقية؟ وتشكل [البُغية] التي غناها في الأربعينيات الشيح ريمون ليريس سيد الملوف، ثم تبعه في الستينيات الشيخ محمد الطاهر الفرقاني، الذي أشاعها عن طريق فن المالوف الذي تميزت به عائلته كلها، هو فن أندلسي إشبيلي في الأصل، ورد من خلال الهجرات الأندلسية نحو الشرق الجزائري.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد