حجر نفسي عالمي

حجر نفسي عالمي

12-12-2025 04:32 PM

في مقابلة قديمة للصحافي والكاتب الأمريكي اليهودي ماكس بلومينثال، التي دارت حول رأيه في الكيان الصهيوني، عقد بلومينثال مقارنة مهمة بين هذا الكيان وكيان آخر مثل «داعش»، فيقول إن إسرائيل مثلها في الإرهاب مثل «داعش»، فهي تقطع الرؤوس ليس بالخناجر ولكن بالطائرت المسيرة، وهي كما «داعش» كيان بلا حدود، لا يعرف لها أحد حدوداً واضحة، وهي كما «داعش» لها مراكز تطرف دينية حول العالم تحاول تجنيد الأشخاص للدخول في حروب دينية، وهي كما «داعش» كيان ديني يسعى للتطهير الديني والعرقي للأقليات غير اليهودية التي تحيا حول وجوده الغريب، وذلك حفاظاً على الهوية اليهودية وعلى النقاء العرقي للكيان. حسب هذا التوصيف، تعتبر إسرائيل كياناً فطرياً سامّاً متطفلاً على المناطق القائمة حوله، وهو كيان يسعى إلى البقاء ليس بالتكافل الحياتي، ولكن بتسميم كل من حوله وتصفيتهم ليبقى هو، شاهداً على أفظع وأفحش ما يشوب جنسنا الإنساني.
إن مثل هذه المقارنة لهي غاية في الأهمية في تثبيت الصفة الإرهابية على هذا الكيان المتطرف، كيان يمثل آخر صورة من صور الاستعمار الاستيطاني التطهيري العسكري في العالم الحديث، ليتبنى هذا الكيان، وحسب تعبير بلومينثال، نظاماً خارجاً عن الزمن والقائم على النقاء الإثني أو على ديموغرافية يهودية مرتفعة في منطقة يعتبر اليهود فيها أقلية، ما يعني ضرورة تشريد السكان الأصليين من غير اليهود وإقصائهم ووضعهم في غيتوهات منعزلة مسورة بأسلاك شائكة ومحاطة بنقاط تفتيش تسعى لتعذيب أهل البلد الأصليين وتصفيتهم نفسياً قبل تصفيتهم جسدياً.
يصعب تصديق ليس فقط تأسيس هذا الكيان في عالمنا الحديث، ولكن مساندة العالم لكيان كهذا قائم على أساس تمييز ديني وتنقية إثنية في هذا القرن من الزمان، قرن الحريات وحقوق الإنسان. تقوم «الدولة الإسرائيلية»، التي هي ليست بدولة وإنما عصابة عالمية، على أساس النقاء العرقي، على أساس يهودية كل أفرادها، وهذا يتطلب، كما يوضح بلومينثال، مشاركة كافة السكان في هذا «المشروع القائم على أساس السيطرة والهيمنة على السكان الأصليين»، ما يعني أنه لا بد من تجنيد كل الإسرائيليين بدءاً من سن الثامنة عشرة، وبالتالي لا بد من أن يشاركوا جميعاً بصورة أو بأخرى وفي وقت أو آخر، في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، في عملية قتل، أو تعذيب، أو إهانة، أو قمع للسكان الأصليين الذين يحيون قبلهم بآلاف السنين على هذه الأرض. بالطبع، لم تتوقف الممارسة الإسرائيلية الفاحشة عند الفلسطينيين، بل امتدت لكل من يناصرهم أو يقف وقفة حق تجاههم لتطالهم هذه الممارسة بشكل مخابراتي قذر لا يعرف معنى حتى لفكرة «قواعد الحرب» المتمخضة من القانون الدولي لحماية المدنيين، ولتضرب هذه الممارسة بكل القواعد والموازين والقوانين الدولية في وجوه الحكومات العالمية التي تقف ذليلة لأسباب واضحة، وأخرى غير واضحة، أمام هذا الكيان الطفيلي العجيب.
لا يمكن تفادي التفكير في الإسرائيليين «المدنيين»، توصيفاً مجازياً هنا، والذهنية والنفسية التي ينشأون عليها في دولة فحش مثل هذه، دولة بلا حدود، دولة قائمة على أساس التصفية الدينية والتطهير العرقي، دولة قوامها العسكري في مدنييها الذين يجب أن يتجندوا جميعاً في سن صغيرة ويجب أن يتدربوا على ضروب من الانتهاكات الإنسانية يصعب تصور تبني «الدولة»، أي دولة في العالم، لها، إلا إذا كانت دولة مريضة في عمقها مثل كوريا الشمالية، أو كيان إرهابي طفيلي يجتذب الناس بقمعهم نفسياً وترهيبهم دينياً مثل «داعش». هذه الصورة الديستوبية المرعبة لكيان في عالمنا يسعى للحصول على اعتراف دولي وحدود توسعية تحقيقاً لنبوءة «إسرائيل الكبرى» لا بد أن يكون نتاجها شباب وشابات مثل هؤلاء الذين نرى صورهم وفيديوهاتهم تملأ وسائل التواصل. لا بد لكيان مثل هذا أن ينتج شباباً وشابات يفحشون في السكان الأصليين، ويرقصون على جثثهم، ويسخرون من بكاء وفزع أطفالهم، جنودهم قادرون على اعتقال أطفال في سن الخامسة، قادرون على قتل المدنيين في مواقف ومشاهد تفوق القدرة البشرية على التحمل، هند رجب مثالاً، قادرون على اغتصاب الأبرياء وتصويرهم ومن ثم ابتزازهم بجريمة هم ارتكبوها، قادرون على الدخول إلى بيوت السكان الأصليين والعبث بخصوصياتهم استعراضاً لملابس النساء الخاصة وعبثاً بألعاب أطفال في الغالب هم في عداد القتلى، والعيث فساداً في ما هو خاص وثمين معنوياً عند أصحاب البيوت الأبرياء.
لا بد لكيان مثل هذا أن ينتج بشراً بلا مشاعر، بشراً قادرين على مشاهدة أسرة متجذرة في بيت توارثوه عبر أجيال وأجيال، تُخلع منه أمام أعينهم ليحلوا هم محل هذه الأسرة في اللحظة ذاتها، ليعيشوا في ذات البيت الذي لا يزال يمتلئ بروائح وحاجيات وأنفاس وتاريخ هذه الأسرة، لا بد لكيان مثل هذا أن ينتج مراهقين عنيفين كارهين مغسولة أدمغتهم بفكرة كره الآخر لهم، كما بفكرة تفوقهم العرقي والديني، لنراهم في شوارع القدس والمدن الأخرى يضطهدون الفلسطينيين، بل وأحياناً الإسرائيليين ذاتهم المحتجين على الأوضاع الداخلية، بأساليب عنف يعف عنها حتى أعتى الطغاة. بل إن هذه الظاهرة امتدت إلى خارج فلسطين المحتلة، لترافق أي إسرائيلي سائحاً في الخارج، لينشر هؤلاء «المدنيون» السائحون العنف حيثما حلوا، ولينفثوا الكره والعنصرية والاستعلاء على الآخر حتى في عقر دار هذا الآخر. لقد حول الكيان الصهيوني كل عضو من أعضائه المدنيين والعسكريين إلى مريض نفسي سيكوباتي، يؤمن بفوقيته الدينية والعرقية، يعتقد بكراهية كل آخر له وبضرورة المبادرة بتصفية هذا الآخر قبل أن يطاله، ويتبني أسلوب العنف الجسدي واللفظي دون أدنى إظهار لأي تردد أو نفور أو حتى مجرد تأنيب ضمير. إنها الصهيونية في أحقر نتائجها.
إسرائيل هي الكيان الوحيد في العالم الذي له مقعد في الأمم المتحدة والذي الذي ليس له حدود معرفة، والقائم على أساس تمييز ديني وتطهير عرقي، والذي يجند كافة مدنييه، والذين انتهك ولا يزال كل قانون دولي حقوقي، والذي يعذب ويقتل ويغتصب أمام كاميرات العالم أجمع، والذي تحول كل فرد من أفراده المدنيين إلى مريض نفسي سيكوباتي. يحتاج الإسرائيليون وكل من يساند كيانهم أو يؤيده أو يطبع معه إلى علاج نفسي طويل الأمد، يحتاجون إلى محاجر نفسية جماعية تعزلهم عن باقي العالم، يوضعون فيها بكل سمومهم وكرههم وعنفهم معاً، إما يتعالجون أو يقضي بعضهم على بعض.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد