الدارجة لغة ثانية في فرنسا

mainThumb

26-03-2025 02:28 AM

تهتم الباحثة ألكساندرين بارونتيني أستاذة محاضرة، ومتخصصة في اللسانيات الاجتماعية بالدارجة المغربية في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (إنالكو)، وتؤكد أن موقع الدارجة المغربية في فرنسا يأتي في الدرجة الثانية بعد اللغة الفرنسية. ولا غرابة في ذلك، فالجالية المغاربية والعربية في فرنسا لها وجود قديم، ومتزايد، وهو يبين عمق الصلات بين الدوارج المغاربية، والعاميات العربية لأنهما معا من أصل واحد هو اللغة العربية الفصيحة، وأن كل واحدة منها لها تاريخها، الذي جعلها ثابتة من جهة، وقابلة للتطور من جهة أخرى، وتفرض نفسها على غيرها من اللهجات، من جهة ثالثة. ويبدو ذلك في كون الكثير من مفردات الدوارج العربية صارت تستعمل في اللغة الفرنسية، وتتداول في الحياة اليومية. وهناك مصادر معجمية تتوقف على أصول هذه المفردات، والصيغ المسكوكة.
إن ما تعرفه اللغة الفرنسية حاليا مع الدوارج العربية ليس جديدا. فالعربية الفصحى كان لها، قديما، تأثير في الحضارة واللغات التي تفاعل معها العرب المسلمون في آسيا وأوروبا وافريقيا. وثمة كلمات كثيرة من أصولها، ولاسيما في مجال العلوم، التي ما تزال مستعملة إلى الآن. وكل العلماء والباحثين، ومؤرخي الأفكار، في اختصاصات متعددة يقرون بذلك. ألف اللساني جان بريفوست في كتابه «أسلافنا العرب: ما تدين لهم به لغتنا» (2017)، وفيه يناقش ما تكرس في الثقافة الفرنسية في القرن التاسع عشر بالقول، إن أسلاف الفرنسيين هم الغاليون، مؤكدا أن ما تمثله اللغة العربية في الفرنسية هو أضعاف ما تقدمه «لغة الأسلاف»: اللغة الغالية، ويذيل كتابه هذا بمسرد طويل من الكلمات ذات الأصول العربية. إن ما أعطى للغة العربية هذه الخاصية، هو أنها في آن واحد حاملة دين عالمي، وحضارة إنسانية ساهمت فيها كل الشعوب التي دخلت في الإسلام، وجعلت العربية لغتها في التواصل، والإنتاج، والتلقي، دون الشعور بالنقص أو الصغار. لقد بقيت العربية في صقلية سائدة مدة قرنين من الزمان بعد خروج المسلمين منها.

وكل من ينتقص من هذه اللغة والإسلام، وموقعهما قديما وحديثا في التاريخ الإنساني، وحتى وقتنا هذا، لا يعبر إلا عن، حقد دفين، ومرض عقلي، ولا علاقة لهم بالتاريخ أو الجغرافيا، أو تاريخ الحضارة، وأن كل أكاذيبه واختلاقاته لا أساس لها. لقد فرضت هذه اللغة نفسها كتابيا في كل البلاد التي دخلها العرب، فكانت لغة التواصل الكتابي في الدواوين والمواثيق والعهود، والعلوم والآداب. وكان لتطور الدوارج والعاميات، شفاهيا، أثره كذلك في كل المناطق التي وجد فيها العرب. وقد أدى ذلك إلى تساوي الثقافة العالمة والشعبية في كل الفضاءات التي تم تعريبها، فصار لكل منها تراث زاخر ما يزال متواصلا إلى الآن، ويبدع فيه الجميع بغض النظر عن أصوله العرقية، أو اللهجات أو اللغات التي ينطق بها.
اللغة استعمال، وتواصل، وتداول. وبقاء اللغات واستمرارها في الحياة دليل على حيويتها، ورمزيتها، وقدرتها على التجدد ومواجهة كل التحديات والإكراهات، ومنها محاولات محوها، والعمل من أجل اندثارها، ما دامت تجسد قيم الإنسان، وتفاعله مع غيره، وحضورها في مختلف مناحي الحياة. إن اللغة العربية الكتابية تتطور باستمرار، وتغتني باطراد بجديد المفردات التي يبدعها الإنسان. ولقد أكسبها هذا طابع الحياة الدائم، وجعل صلاتها بأصولها الضاربة في التاريخ ممتدة، وقادرة على مواكبة التحولات والتغيرات. ما قلناه عن العربية الكتابية، نقوله عن الدوارج والعاميات العربية. إن اللهجات العربية في المغرب متحولة باستمرار. ومن خلال تجربتي الحياتية في الدار البيضاء، وفاس، حيث الاختلاف بين اللهجات، أرى أن اللهجة البيضاوية في الستينيات وحتى أواسط السبعينيات لا علاقة لها بالدارجة اليوم. كانت عنيفة، وساخرة، وبدوية، بمقارنتها باللهجة الفاسية مثلا. أما الآن فهي لهجة متفتحة، ومتحضرة، ولطيفة. وعندما أستمع الآن إلى برامج إذاعية يتكلم فيها المغاربة من مناطق نائية بالدارجة أحس بالفرق الكبير بين ما كانت عليه دوارجنا، وما أصبحت عليه. وما طرأ على لهجات أهل المدن والحواضر ينسحب على سكان القرى والبوادي.
لقد لعب تطور المجتمع المغربي، وانتقاله البطيء من البادية إلى المدينة، من جهة، وما قامت به وسائل الإعلام المختلفة، من جهة ثانية، من أدوار كبيرة ساهمت في تحول الدوارج المغربية، وقد صارت أميل إلى اللغة العربية الكتابية، الملحونة، مما كانت عليه. كانت دوارجنا المغربية تزخر بالمفردات الأجنبية المعربة، خاصة من الفرنسية والإسبانية. أما الآن فالأمر مختلف بشكل كبير، وإن لم يمنع هذا من استعمال ألفاظ أجنبية في التداول اليومي، وقد صارت جزءا من لغة التواصل اليومي.
يؤكد تطور اللغة العربية الفصحى والعاميات والدوارج في كل الوطن العربي أن الصلات الوثيقة بينهما قديمة ومتواصلة. لذلك نجد كل الأجانب الذين يودون تعلم أي لهجة عربية يرى أن المرور إليها لا يتأتى إلا بتعلم اللغة العربية الفصحى أولا. ونجد ذلك بوضوح في كون مقررات تدريس العربية في الجامعات العالمية التي تبدأ بالعربية الفصحى، ثم يأتي التخصص بعد ذلك في إحدى العاميات المشرقية، أو الدوارج المغاربية. لذلك لا غرابة أن نجد الدارجة العربية المغاربية هي الثانية في فرنسا، وليست أي لغة أو لهجة أخرى.

كاتب مغربي






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد

القوات الأمريكية تعلن تدمير منصة وقود في ميناء رأس عيسى اليمني

نيويورك تايمز: نتنياهو أراد ضرب إيران في آيار .. وترامب جمّد الخطة مؤقتا

الحالة الجوية المتوقعة من الجمعة حتى الأحد .. تفاصيل

حماس تعرض إطلاق المحتجزين مقابل إنهاء حرب غزة

المراكز الشبابية بالرمثا تنفذ أنشطة توعوية متنوعة

أوقاف الكورة تعقد دورة المستوى الثاني والثالث للأئمة بالإجازة القرآنية

طواقم المستشفى الميداني الأردني جنوب غزة/6 تصل أرض المهة

غرب آسيا .. منتخب السيدات لكرة السلة يخسر أمام إيران

بلوغر عراقية تتصدر الترند .. مصدر ينفي إطلاق سراح أم اللول

مزاح واستخدام مادة محظورة أمنياً .. مستجدات حادثة اختناق طلاب جامعيين

فضل شاكر يواجه اتهامات حساسة ونجله يخرج عن صمته

الدفاع المدني يتعامل مع 1489 حادثاً في 24 ساعة

حماس تتحدى شروط نتنياهو التعجيزية: لن نتخلى عن السلاح

داود: إحباط المخططات الإرهابية يدل على وجود تطرف بالأردن

علماء يرصدون أول دليل قوي على وجود حياة خارج الأرض