كل «شِعر» وأنتم بخير

mainThumb

07-04-2025 04:02 AM

لنتخيل أمّا كردية شديدة السمرة مصابة بمتلازمة داون جالسة تحت شجرة في جبال كردستان تكتب قصيدة في يوم ربيعي مشمس، بهذا المشهد السريالي يرتسم في خاطري «اليوم العالمي للشعر»، الذي مرت ذكراه قبل أيام قليلة في 21 مارس/آذار. وسبب هذا الخليط اللامتجانس في ذهني، أن هذا اليوم يجمع تحت مظلته مناسبات عديدة: فهو يوم الاعتدال الربيعي الذي يعطي إشارة انطلاق بداية فصل الربيع في نصف الكرة الأرضية الشمالي، وهو يوم عيد النوروز حيث يحتفل فيه الفرس والأكراد برأس سنتهم، كما أن هيئة الأمم المتحدة اعتمدته سنة 1966 يوما عالميا للقضاء على التمييز العنصري، وهو أيضا منذ سنة 2011 اليوم العالمي للمصابين بمتلازمة داون، وكان للأشجار نصيبها من هذا اليوم أيضا فقد اعتمدته الأمم المتحدة سنة 2013 يوما عالميا للشجرة والغابات.

من دون أن ننسى أنه مناسبة عيد الأم في كثير من البلدان العربية. فهل ضاقت أيام السنة الكثيرة حتى تحتشد كل هذه الأعياد في يوم واحد! ولأن معشر الشعراء مثل صانعي الفخار الذين يضعون يد الجرة في أي مكان يشاؤون، وجدوا تبريرات لاختيار يوم 21 مارس يوم الشعر، عربا كانوا أم أجانب، فالشاعرة اليونانية ليديا ستيفانو ترى أن هذا اليوم «يربط بين النور من جهة والظلام من جهة أخرى، حيث يعكس الشعر الوجه المشرق للتفاؤل، ولكن أيضا الوجه المظلم للحزن»، في حين يُشَعْرِنُ الشاعر اللبناني شوقي بزيع هذا اليوم ويعلل اختيار هذا التاريخ، بأن «مفهوم العيد لا يتجسد في أي يوم من أيام السنة، كما هو الحال في 21 مارس.. فليس الربيع من جهته نقيضاً للإبداع، بقدر ما هو تعبير رمزي عن اكتمال دورته التي وفر لها الخريف والشتاء شروطها الملائمة، فأزهرت وأثمرت ولم تعد تحتاج إلا إلى قطاف. إنه القصيدة وقد تحققت على أرض الواقع»، مع أنه يرى في مقاله نفسه أن فصل الخريف «بمثابة الظهير الأمثل لكل إبداع تعبيري»، ويرى أن «الشعر طقس شتوي أيضا»، ولم يُقْصِ من احتفائه بالشعر سوى فصل الصيف. وللدقة لم يكن اليوم الحادي والعشرون من مارس، اليوم الوحيد للاحتفاء بالشعر ففي القرن العشرين ـ والعهدة على ويكيبيديا- كان العالم يحتفل بالشعر في الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول وهو ذكرى مولد الشاعر الروماني الملحمي فيرجيل، وإلى الآن لا تزال المملكة المتحدة تحتفل بيوم الشعر العالمي في أوائل شهر أكتوبر في حين بلغ الكرم الأمريكي أن عينت الولايات المتحدة شهرا كاملا في أبريل للاحتفاء بالشعر.

ولأن الهزيمة يتيمة، أما النصر فله ألف أب، فقد تعدد القائلون بأنهم مِن وراء اقتراح هذا التاريخ تحديدا، مثلما تعودنا أن نختلف على من له شرف البدء دائما، وما قصة ريادة الشعر الحر بين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب منا ببعيد. وتعددت السرديات بين العرب والأجانب أيضا، فالشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، يروي في مقال له بعنوان «قصة تأسيس اليوم العالمي للشعر» بأن فكرة الاحتفال بيوم الشعر العالمي، طرحت لأول مرة خلال مهرجان ربيع الثقافة الفلسطينية، الذي انعقد في فرنسا في مايو/أيار 1997، حين أطلق الشاعر الفلسطيني محمود درويش، بالإضافة إلى الشاعر عز الدين المناصرة، والشاعرة فدوى طوقان، نداء إلى مدير عام اليونسكو آنذاك، فيديريكو مايور في شكل رسالة/بيان بعنوان «مانيفستو: الشعر شغف الإنسانية ـ الشعر جسد العالم»، طالبوا فيه بضرورة تسمية يوم عالمي خاص بالشعر، بل يذهب عز الدين المناصرة في مقاله إلى أن الفكرة أساسا جاءت منه، مستشهدا بشهادة للصحافي أحمد فرحات قال فيها «فكرة قيام يوم عالمي للشعر، نبعت أساساً من رأس الشاعر عز الدين المناصرة، باعتراف الشاعر محمود درويش، الذي تبناها من فوره مع الشاعرة فدوى طوقان ـ وذلك كما أسرّ لي الشاعر درويش نفسه في باريس، عام 2004». غير أن للمغاربة رأيا آخر ـ ما يذكرنا بالتنافس المشرقي المغربي منذ عهد ابن هانئ والمتنبي، إلى محمد عابد الجابري وحسن حنفي- فهما يريان أن الفضل في اقتراح هذا اليوم يعود إلى الشاعر المغربي محمد بنيس، الذي وجه دعوة إلى المدير العام لليونسكو فيديريكو مايور سنة 1998 يدعو فيها إلى تحديد يوم عالمي للشعر، تبنتها اللجنة الوطنية المغربية في المنظمة، من خلال طلب إدراج بند على جدول أعمال المجلس التنفيذي لليونسكو يتعلق بإعلان يوم عالمي للشعر.

وفي مقابل هذه السردية العربية نجد للغرب أيضا سرديتهم المتناقضة أيضا، ففي مادة «اليوم العالمي للشعر» من ويكيبيديا نقرأ أن اليونسكو أدرجت هذا اليوم في جدول أعمالها، باقتراح من الشاعر والمترجم التركي طارق جونرسيل مع الشاعرة التركية جولسلي إينال في عام 1996. وقد قدم طارق جونرسيل الفكرة رسميا في مؤتمر إدنبرة عام 1997، حيث دعمتها منظمة القلم التركية، وأيدتها منظمة القلم في ملبورن. غير أن لليونانيين رأيا آخر، فلا يريد من نظروا للشعر بكتاب «فن الشعر» لفيلسوفهم أرسطو أن يُسبقوا إلى هذا الفضل، فقالوا إن أصل الفكرة تعود إلى الشاعر اليوناني ميخاليس ميتراس، حيث اقترح في خريف 1997 على جمعية المؤلفين اليونانيين تبني الاحتفال بالشعر في اليونان وتحديد يوم له، فتلقف الفكرة الكاتب اليوناني فاسيليس فاسيليكوس، وكان سفير اليونان لدى اليونسكو في ذلك الوقت، فاقترح تاريخ 21 مارس يوما عالميا للشعر. وسواء أكان السبق عربيا كما نتمنى أو غربيا فقد اعتُمِد هذا تاريخ في الدورة الثلاثين لليونسكو التي عقدت سنة 1999 في باريس.

حُددت لليوم العالمي للشعر في واجهة صفحة اليونسكو سبعة أهداف كبيرة هي: «دعم التنوع اللغوي من خلال التعبير الشعري، وزيادة فرص إيصال اللغات المهددة بالانقراض. وأن يكون مناسبة لتكريم الشعراء، ويعيد إحياء التقاليد الشفوية لأمسيات الشعر، كما يشجع على قراءة الشعر وكتابته وتدريسه، ويعزز التقارب بين الشعر والفنون الأخرى، مع الحرص على زيادة حضور الشعر في وسائل الإعلام»، ولكن بعيدا عن الأحلام الوردية أين نحن من هذه الأهداف بعد ست وعشرين سنة من الإعلان؟ لست من المتشائمين الذين يقولون إن الشعر في طريقه للانقراض، وإن عصر الرواية قد قضى عليه، فهذا الفن الإبداعي الذي يعود إلى آلاف السنين عند كل شعوب العالم أساسٌ في التعبير الإنساني عن المشاعر، بدءا بالعاشق المراهق وهو يقتبس أشعار الغزل ليرسلها إلى الحبيبة، وليس انتهاء بالمفكر المتأمل وهو يتذوق القضايا الوجودية الكبرى والأبعاد الكونية التي تستبطنها القصائد العظيمة، كما أني لست متفائلة إلى درجة أن أغمض عيني عن قاعات الأمسيات الشعرية الخاوية، وإعراض الناشرين عن طباعة هذه السلعة الكاسدة كما يرونها، والأسوأ من هذا كله ما يُنشر من لغو وغثاء ودفاتر محاولات تحت مسمى الشعر، ما زاد الشرخ بين الشعر الحقيقي والمتلقي المحاصر بالرداءة.

ويؤسفني أن أقول إن عودة الشعر إلى مكانته اللائقة أصبح بحاجة إلى دعم دول لا جهود أفراد، وبالعودة إلى أحد أهداف اليونسكو السبعة «زيادة حضور الشعر في وسائل الإعلام»، تكفي نظرة بسيطة إلى واقع الثقافة في قنواتنا التلفزيونية العربية – ولا أستثني قناة – لنرى الفرق جليا بين رومانسية الحلم وكابوس الواقع، فالبرامج الثقافية حتى تلك المتعلقة بالكتب تلغى من البرمجة بدعوى أنها لا تجلب معلنين، بل حتى الكتب المدرسية ما زالت متخلفة في تقديم الشعر لأطفالنا، تكرر النصوص نفسها منذ بدايات القرن الماضي، معرضة عن الانفتاح على تجارب جديدة وجادة من قصيدة النثر مثلا التي قاربت السبعين عاما، ولا تزال تعامل معاملة الجارية في قصر الست ذات العمودين.
في زمن وسائل التواصل ومشاع المعلومة وسهولة الوصول إليها، نحتاج عودة حقيقية إلى الشعر ليصبح في متن حياتنا التي أرهقتها الحروب والكوارث، وأتعبها اللهاث وراء التكنولوجيا لا على الهامش كما هو واقع الحال، وحين يرجع الشعرُ لسانَ الروح يومها فقط أقول» كل يوم عالمي للشعر وأنتم بخير».

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد