أركيولوجيا ناطقة وأخرى صماء

mainThumb

18-06-2025 03:14 AM

يعتبر علم الآثار من العلوم الحديثة المهمة التي تستكشف من خلال البحث في آثار الإنسان القديم نمط عيشه، وتقدم لنا معرفة جديدة عن تطوره الحضاري ومنجزاته الثقافية، وفك شيفرات لغاته ونصوصه، وتحدد لنا دوره في تطور البشر في مختلف مناطق الكرة الأرضية. ومع تطور وسائل الاستكشاف والاهتمام بهذا العلم بات يتوضح لنا الكثير من المعارف التي كنا نجهلها جهلا تاما.

وبفضل المجهودات المبذولة على مستوى البحث الأركيولوجي المعاصر صارت معارفنا تتوسع بما نتحصل عليه من معلومات جديدة ومتجددة باستمرار، تاريخيا وأنثروبولوجيا. وبالنظر إلى ما يتم استكشافه من آثار غابرة في الزمان يمكننا التمييز بين أركيولوجيا ناطقة وأخرى صماء، فالأولى بتوصلها إلى فك شيفرات الآثار التي يتم العثور عليها، تقدم لنا معرفة جديدة لأنها ناطقة تمكننا من التفاعل معها والاستفادة منها، والاستمتاع بها، ولاسيما ما اتصل منها بما كان ينجزه الإنسان في مسيرته الحياتية من آثار مادية (المعمار مثلا) وغير مادية مثل النصوص التي كان يعبر من خلالها عن أفكاره ومشاعره ورؤيته للعالم وتصوراته للكون، وتبين مدى مساهمته في الحضارة الإنسانية.

أما الأركيولوجيا الصماء، وهذا ليس انتقاصا منها، فتقف عند حد استكشاف هياكل عظمية للإنسان القديم، وبعض وسائل الزينة التي كان يستعملها، أو بعض الأدوات التي كان يوظفها في حياته اليومية. ولا شك في أن هذه الآثار ذات قيمة لأنها تقدم لنا صورا عن تفاعل الإنسان مع بيئته ونمط حياته. وحين وصفنا هذه الأركيولوجيا بالصماء، فلأن ما تقدمه لنا يظل محدودا وناقصا لا يعطينا سوى أجساد بلا أرواح. وعلى عكس الأركيولوجيا الناطقة التي تقدم لنا معرفة دقيقة عن الإنسان القديم من خلال آثار معماره، أو نصوصه المكتوبة على شكل أساطير، أو محاولات لتفسير الكون، أو معتقدات وقيم، التي يمكننا قراءتها وتفسيرها، تطلق الأركيولوجيا الصماء العنان للخيال الأيديولوجي ليبحث لتلك الأجساد عن روح لا تتلاءم معها، لأنها تُسقط عليها لتبريرات لا قيمة لها، لأنها لا تصمد أمام أسئلة بسيطة يمكن أن تفرض نفسها.

ما تقدمه لنا الأركيولوجيا الناطقة نتاج ثقافات وحضارات لها وجود تاريخي واقعي وحقيقي نلمسه بما تنطق به تلك الآثار. ألم يقل الشاعر العربي: «تلك آثارنا تدل علينا/ فانظروا بعدنا إلى الآثار!» يبدو لنا ذلك بجلاء في ما قدمته لنا الحفريات عن بلاد الرافدين ومصر الفرعونية والصين والهند وحضارات المايا والأزتيك والإنكا ذات الحضور المادي في تاريخ البشرية. فإلى جانب المعمار الناطق بالمستوى الهندسي، الذي وصلت إليه تلك الحضارات نجد لغات كتابية مندثرة بذل العلماء المجهودات الكبرى في فك شيفراتها فتعرفنا من خلالها على النصوص الآشورية والمصرية وغيرهما من الآثار الجليلة التي خلدتها الحضارات العظيمة في الأزمنة الغابرة.

أما الأركيولوجيا الصماء وهي تقدم لنا الهياكل العظمية وبعض الأدوات المستعملة فإن الكشف عن حمضها النووي مفيد في تحديد جيناتها، أو زمان وجودها. لكنها لا تقدم أكثر من ذلك ما لم نقارنها بنظيراتها في مناطق متعددة في الأرض. لكن استثمار ما تقدمه هذه الأركيولوجيا أيديولوجيا فيدفع إلى تقديمها وكأنها حقائق نهائية ومطلقة، وتدفع أصحابها إلى تأويلات ما أنزال الله بها من سلطان. إن ادعاء ظهور الإنسان الأول، مثلا، في منطقة ما من الكرة الأرضية، يصبح ذلك مجالا للفخر والاعتزاز، لدى البعض، لا مبرر له نهائيا لأنه ينطلق من رؤية قطعية توهم بأن البحث الأركيولوجي انتهى إلى حقيقة مطلقة ونهائية لما يمكن استكشافه في مناطق أخرى من العالم. ويبدو لنا ذلك بجلاء بما يتحقق باطراد من كشوفات تجلي معلومات جديدة ومتجددة حول نشأة الكون، وبقايا آثار عن الإنسان القديم، بل حتى عن أجناسه المختلفة، عما هو معروف ومتداول، من ثقافات وأماكن مختلفة تنسخ ما اعتبر معلومات قارة لعدة قرون حقائق نهائية.

إن الأركيولوجيا الصماء تقدم لنا جسدا بلا روح، لقد اعتبرنا ما تقدمه لنا هذه الأركيولوجيا أصمَّ لأنه لا ينطق بما تقدمه لنا. فما هي اللغة التي كان يتكلم بها الإنسان الأول؟ وهل كان يتكلم أم فقط يخرج أصواتا؟ من أين جاء هذا الإنسان الأول؟ هل أنزل من السماء، أم نبت من الأرض؟ وتظل الأسئلة مطروحة ولاسيما عندما نضعها في سياق التطور الجيولوجي للكرة الأرضية، الذي ما يزال بدوره قيد الدرس. وإذا افترضنا أن هذا الإنسان كان يتكلم، فهل لغته ذات أصول في شجرة اللغات، أم أنها مستقلة عن غيرها ولها أصولها الذاتية التي تجعلها متفردة؟ وقس على ذلك أسئلة أخرى تتعلق بمدى تفاعله مع غيره، وتنقلاته، ومدى استفادته وتأثيره فيه؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تظل بلا إجابة، وهي تتطلب تطوير البحث العلمي في بلادنا، وليس الانطلاق من بعض النتائج لتحويلها إلى مقدسات لتفسير التاريخ والجغرافيا، بما يتلاءم مع الميولات الأيديولوجية.

تظل الأركيولوجيا الصماء غير ذات قيمة أنثروبولوجيا، لأنها لا تقدم لنا صورة دقيقة عن الحضارة التي تمثلها، وهي بذلك تظل قاصرة لأن ما تقدمه لنا لا ينطق بما يمكن أن نعاينه من آثار مادية وغير مادية. إن الحديث عن الإنسان الأول أسطورة من الأساطير التي يكذبها العلم، وإن كانت تعتبرها الأيديولوجيا حقيقة مطلقة، وهي تسعى لإعطاء ذلك الجسد روحا لا علاقة له بها.

كاتب مغربي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد