مجاهد أم حركي

mainThumb

24-05-2025 03:48 AM

في الجزائر، عندما يود أحد الإساءة إلى آخر، يطلق عليه صفة: «حركي»، وهي كلمة عامية، جمعها (حركى)، ويقصد منها أولئك الذين خدموا الاستعمار، أو الذين اتهموا جزافاً بخدمة الاستعمار، في الخمسينيات من القرن الماضي. وعندما يُراد امتداح شخص آخر، ينادونه: «المجاهد»، فقد أطلق المناضلون الوطنيون على أنفسهم تلك الكلمة. بعد أكثر من ستة عقود على انقضاء حرب التحرير، وعلى الرغم من الأحداث الكثيرة التي شهدتها البلاد، لا تزال هاتان الكلمتان حاضرتين بين الناس. رغم أن الحرب انتهت، فإن من الناس من يريد إطالة عمرها، ومن كلامهم نشعر بأن فرنسا لا تزال تطوف في البلاد، على الرغم من أنها غادرتها قبل ما يزيد عن ستين عاماً.
إنهما كلمتان فاضحتان، تكشفان عن عطب في مخيلة الذين لا يقرون بأن الحرب انقضت، عقب توقيع اتفاقيات إيفيان (في 19 مارس/آذار 1962)، ولا يريدون الاقتناع بأن نهاية الحرب تعني نهاية قاموسها اللغوي. عندما نسمع من يتداول كلمتي (حركي) أو (مجاهد) في ذم أو مدح شخص آخر، نشعر وكأن التاريخ توقف ولا يريد أن يمضي إلى الأمام، وكأن الناس لا يعرفون حدثاً آخر يجدر الاعتداد به سوى سنين حرب التحرير. فقد لعبت المناهج التعليمية دورها، في ربط ذاكرة الأجيال مع حرب التحرير، بدل الخوض في شأن آخر من شؤون الحاضر أو المستقبل. والإعلام كذلك لعب دوراً ـ لا يستهان به ـ في توريط الذاكرة الجماعية في حيز يصعب عليها الخروج منه، فالناس يعيشون في 2025، لكنهم يستعينون بقاموس كلمات من سنوات الخمسينيات. ومثلما كان عليه الحال في الماضي، عندما كانت كلمتا «حركي» أو «مجاهد»، يجري تداولهما بشكل عشوائي، لا تزال العشوائية تحكم هذين المصطلحين، فيحصل أن يُنعت أحدهم بالحركي في النهار، ثم ينعت بالمجاهد في الليل، والعكس صحيح. ومن كثرة تداول الكلمتين تكادان تفقدان معناهما، لأنهما توزعان من غير منطق. وكثرة تداولهما على الألسنة تقلص من قيمتهما وتأثيرهما، لكن الشيء الأكيد في هذه المعادلة اللغوية، أنه رغم كل العقود التي مضت، لا يزال الناس عالقين في مصطلحات من ماضٍ لا يود أن يطوي صفحاته، هذا الماضي المقتبس من حرب يريدها البعض ألا تنتهي.

حركى

من يُطلق عليهم «حركى»، وفي أحيان كثيرة من غير تبصر، هم أشخاص تحملوا وطأة التاريخ. والأحكام المسبقة بشأنهم تتغلب على العقل، والأجوبة بشأنهم جاهزة قبل التفكير. بمجرد ذكر اسم (حركي) سوف نسمع زوبعة من الشتائم والمسبات، فالحركي أقدم تابو في الجزائر. الحركى هم أولئك الذين نظن أنهم تعاونوا مع الاستعمار، فهل فعلاً كانوا كذلك؟ أم أن التهمة وقعت على رؤوس بعض منهم وكانوا بريئين منها؟ فعلاً، حصل أن أطلقت تلك التهمة على أشخاص تعاونوا مع الفرنسيين، مثلما أطلقت على من كانوا أبرياء منها. يكفي أن نذكر بحالة محمد بوضياف، فعقب اختلافه مع رئيس البلاد عام 1963، جرى سجنه واتهم بالتآمر، وصار في صف واحد مع (الحركى). ثم أخلي سبيله. أجبر على منفى، قبل أن يعود عام 1992 رئيساً للبلاد. وهناك قائمة طويلة من مناضلين وطنيين لفقت لهم هذه التهمة، على غرار كريم بلقاسم أو محمد خيصر، وهما اثنان من رموز حرب التحرير، قبل أن يرد لهما الاعتبار. وكذلك مصالي الحاج مؤسس الحركة الوطنية، الذي يرجع إليه الفضل في تكوين الجيل الأول من المناضلين، قبل أن يجري اتهامه بالحركي كذلك، ودامت تهمته زمناً طويلاً، ولم يرد إليه الاعتبار سوى مطلع الألفية الجديدة. للأسف لم تخضع حرب التحرير إلى مراجعات تاريخية، من أجل تنقيتها من الشوائب، من أجل معالجتها في حياد، من غير عاطفة، وبالتالي الشفاء من قاموسها اللغوي، بل ظلت في مصاف المقدسات، ولا حديث عنها إلا بناء على ما أراده الجيل الأول الذي حكم البلاد. فشخصية بارزة مثل محمد شعباني كذلك، اتُهم بأسوأ النعوت، وحُكم عليه بالإعدام عقب الاستقلال، قبل أن يرد إليه الاعتبار كذلك. وهذه شخصيات معروفة أوردنا أسماءها، ولعل من بينهم أشخاصا آخرين غير معروفين، اتهموا بالعمالة وأنهم حركى، مع أنهم كانوا في صف المناضلين. ألم يحن الوقت من أجل مقاربة جديدة بشأن حرب التحرير، من أجل تحريرها من العاطفة، والتعامل معها بوصفها حدثاً تاريخيا، يحتمل المراجعة وبالتالي نستطيع التفكير في الحاضر والمستقبل، بدل الارتباط بالماضي فحسب؟

مجاهد

في غضون حرب التحرير، ساد شعار واحد بين الجزائريين، مفاده: «بطل وحيد هو الشعب»، بحكم أن الجميع قد شارك فيها، سواء بحمل السلاح، أو الدعم والتموين، أو مجرد المشورة، وعقب الاستقلال جرى محو ذلك الشعار، وصار الأبطال هم المجاهدين والشهداء. واستبعد من المعادلة المدنيون، أولئك الذين لم يكونوا أبطالاً ولا ضحايا. إلى غاية سنوات الستينيات، لم يتم تكريم المجاهدين سوى بأوسمة أو ميداليات، فخزينة الدولة كانت تعاني من فقر، ما أوجب على الرئيس أحمد بن بلة إنشاء «صندوق التضامن»، فصار الناس يتبرعون بما يملكون، من أقراط أو خواتم من ذهب أو فرنكات. ثم حل النصف الثاني من السبعينيات، التي شهدت طفرة في أسعار البترول، وامتلأت الخزينة، فتقرر منح مكافآت عينية للمجاهدين، فصار كل مواطن يتمنى أن يحمل صفة (مجاهد). ومع مطلع التسعينيات انفجرت قضية جديدة، عن المجاهدين المزيفين، ويقصد منها أولئك الذين حازوا صفة مجاهد بطريقة غير قانونية، وصاروا يستفيدون من منح أو من مناصب، ثم تعالت أصوات من داخل السلطة وخارجها بغرض تطهير قوائم المجاهدين، لكن لا شيء تحقق، ولا يزال الناس يهمسون، في الخفاء، أن فلاناً مجاهد مزيف، وأن آخر صار مجاهدا بعدما التحق بالحرب في الربع ساعة الأخيرة، وتكاد صفة (مجاهد) تفقد محمولها وقيمتها، في الجزائر، وتحتاج إلى مراجعة، مثلما يحتاج تاريخ حرب التحرير إلى مراجعة، في التعامل معه بوصفه حدثاً تاريخياً، وقد انتهى، بدل الإطالة من عمره، فيتعرض إلى المزيد من التناقضات، ومن صدامات في الرأي.
قد يظن البعض أن هذا الكلام يقصد منه انقلاب على تاريخ تلك الحرب، بل هو دفاع عنها، لأن الانقلاب عليها يأتي من إطالة عمرها، ما يجعلها محل نقاشات متضاربة، ويعرضها إلى سوء فهم وتعارض في الآراء.

كاتب جزائري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد