حكايتي والكتابة: سحر اللحظة الأولى

mainThumb

29-05-2025 02:39 PM

 تعود بي الذاكرة إلى ما يقارب أربعة عقود ونيف، حين كانت البدايات الأولى لحكايتي مع الكتابة، مجرد فكرة عابرة دار حولها حديث بسيط بيني وبين صديقي وجاري محمد هاشم أبو عنزة. قال لي يومًا:
"ما رأيك أن نكتب مشاركات لكلمة السر ونرسلها إلى جريدة الرأي؟"
ضحكت، وسألته مازحًا:
"أتظن أنهم سيكترثون لنا أو ينشرون لنا؟"
فأجابني بإصرار الطامح:
"دعنا نجرب."
جلس كلٌّ منا يخط كلمته، وحرصًا على التوفير بثمن طوابع البريد، وضعنا الورقتين في مغلف واحد، كتبنا عليه العنوان بعناية. ثم نزلنا معًا إلى مكتب البريد، حيث استقبلنا المرحوم أبو أنس أبو عبود، بابتسامته المعهودة ونظرته الأبويّة الحنونة، وقال ممازحًا:
"شو صايرين تحبوا؟ بدكو تودوا رسايل؟"
ضحكنا، ولم نُطل الشرح، سلّمناه المغلف وكأننا نودع بين يديه أحلامنا الصغيرة، التي ما زالت على عتبة الطفولة تبحث عن منفذ للضوء.
نسينا الأمر لبعض الوقت، حتى جاء ذلك اليوم الذي ما زال محفورًا في وجداني لا تمحوه السنون.
كنا نلعب في الحارة، حين ظهر ابن خالتي، المهندس حسين الحياري، يركض نحونا من مثلث النسور، صارخًا من بعيد:
"عاطف! اسمك طالع بالجريدة!"
توقفت الدنيا حولي لحظات. لم أصدق أذني. ابن الثالثة عشرة يُنشر اسمه في جريدة يومية؟ كانت بالنسبة لي معجزة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أخذت الجريدة بيدين مرتجفتين، قلّبت صفحاتها بشغف، حتى وقعت عيناي على اسمي مطبوعًا بالحبر الأسود. كان شعورًا يفوق الوصف، مزيجًا من الفخر والانتصار والدهشة، لا لأن صديقي محمد لم تُنشر مشاركته، بل لأنني رأيت ثمرة جهد بسيط أزهرت فجأة في قلب طفل يحلم.
في تلك اللحظة، رفعني أولاد الحي على الأكتاف، وهتفوا باسمي، وكأنني حققت نصرًا للوطن لا للذات. ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلتي. لم يكد يمر أسبوع إلا واسمي يزين صفحات الجريدة ثلاث أو أربع مرات، من خلال مشاركات في "كلمة السر" أو "الكلمات المتقاطعة".كنت أبدع في رسم المربعات، أختار مواضيع تفوق الخيال، أبتكر قصصًا وبطولات وهمية لأطفال الحي، مستوحاة من عوالم السينما أو من أحلام الطفولة الواسعة، وكنت أنا دائمًا المخرج والمؤلف والبطل.
ما بين ورقة وقلم، ومربع ومسطرة، وجريدة تفتح ذراعيها، وطفل يؤمن أن الحلم لا يعرف عمرًا… وُلدت أنا. وُلد الكاتب.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد