أصحابه لم يعطوه حقه

mainThumb

16-06-2025 07:11 AM

لا قوام لامرئ بنفسه، مهما كان قدْره، ومهما كانت إمكاناته، فلا بد له من هالة بشرية تحيط به، وتسهم في إنجازاته، وتعمل على نشرها وإيصالها إلى مظانّ المنفعة، سواء كانوا أتباعا أو أصدقاء أو طلابا. هؤلاء شركاء للرموز في إنجازاتهم ونتاجهم العلمي والفكري والثقافي، وجسور عبرت عليها حصيلة إبداع وجهد هؤلاء الرموز، وأسوق بهذا الصدد ثلاثة نماذج معاصرة، تنوعت تخصصاتهم ما بين علوم الدين والأدب والفكر، ساهم المحيطون بهم في إثراء نتاجهم وذيوعه وانتشاره واستفادة الجماهير منه.
النموذج الأول: هو الفقيه السعودي محمد صالح العثيمين، الذي ترك تراثا علميا يتدارسه الطلاب في أنحاء العالم الإسلامي، وأبرز ما خلّفه هذا الفقيه كتاب «الشرح الممتع على زاد المستقنع»، الذي يشرح فيه كتاب «زاد المستقنع في اختصار المقنع» لمؤلفه الحجاوي، الذي اقتصر على طرح الراجح من مذهب الإمام أحمد. كان الشيخ العثيمين يشرح هذا الكتاب في محاضراته بحل ألفاظه وتفسير معانيه، وذكر القول الراجح في المسألة في غير تقيد برأي المذهب. تداول الناس هذا الشرح من خلال الاستماع للأشرطة المسجلة، إلى أن جاء بعض طلابه، الدكتور سليمان عبد الله أبا الخيل، والدكتور خالد المشيقح، وقاما بإخراجه في كتاب تم طبعه، فصار هذا الكتاب من أشهر الكتب الفقهية المعاصرة، مع أنه كان حبيس التسجيلات الصوتية.
النموذج الثاني: هو الأديب مصطفى صادق الرافعي، صاحب كتاب «وحي القلم»، الذي يعد عمدة في الأدب المعاصر، إضافة إلى العديد من كتبه الماتعة، التي أعطت لونا جديدا للأدب، كـ»السحاب الأحمر» و»أوراق الورد» و»رسائل الأحزان» وغيرها. لكنّ جانبا في شخصية الرافعي وتفاصيل حياته الشخصية، التي لا تنفك عن كونه أديبا، وتفاصيل أخرى متعلقة بالأدب والنقد والرؤى الأدبية، كان من الممكن أن يندثر، أو لا يصلنا عبيرُه الذي ترك أثرا في المكتبة العربية، لولا أن قيّض الله الأستاذ محمود أبو رية، التلميذ النجيب للرافعي، وكاتم سره، ورفيق دربه، لأن يسجل لنا وثائق أدبية ذهبية من خلال الرسائل المتبادلة بينه وبين الأديب، وضمها في كتاب سماه «رسائل الرافعي».

طالعت هذا الكتاب، فألفيْته مُترعا بالفوائد، التي تثري الأدب العربي، فقد كشف أبو رية الجانب العاطفي في حياة الرافعي وفلسفته في العشق، التي ارتكزت علاقته به على كوْنه رافدا لإمضاء القلم، خاصة في ما يتعلق بحبه للأديبة مي زيادة، التي امتلأت بعض كتاباته بمضامين هذا الحب يشير إليه من طرف خفي. كما كشف الكتاب عن علاقة الرافعي بالأدباء، عن منهج الرافعي في سلوك المبتدئين في طريق الأدب، والمسار الذي رسمه لبلوغ المراتب العلية فيه، وطرق تحسين الإنشاء والقدرة على التعبير، وآرائه في مسالك الأدباء أمثال الجاحظ والمنفلوطي والغارودي وغيرهم، ومناقشاته في بعض كتبه وكتب غيره، إضافة إلى تناول قضايا عامة في الأمة، سياسية وأدبية وثقافية، بل وقرآنية، كما أن هذا الكتاب يحيط قارئه علما بالأحوال الصحية التي كان عليها الرافعي، سواء ما يخص الضعف الشديد في سمعه، الذي يصل إلى حد الصمم، والوهن والضعف الذي كان عليه آخر حياته، فقلت في نفسي: كيف كنا سنتعرف على هذه الجوانب لو لم ينقلها إلينا أبو رية.
النموذج الثالث أمامنا هو المفكر الفيلسوف العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري، الذي لو لم يترك لنا من نتاج جهوده الفكرية سوى موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لكان كافيا. هذا العملاق ترك لنا تراثا فكريا ضخما، لكن جاءت حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري، التي حررتها سوزان حرفي – التي كانت متأثرة به – لتوقف القارئ على ما يمكن تسميته بمختصر جامع لأفكار المسيري، إذ إن هذه السلسلة ترسم في مخيلة من يطالعها خريطة لفكر هذا المسيري. هذه السلسلة كانت تجميعا للحوارات التي أجراها صحافيون وإعلاميون ومتخصصون عبر محاضرات أو ندوات أو لقاءات إعلامية، قامت بتحريرها سوزان الحرفي، لتضيف إلى المكتبة العربية عملا جليلا، يبرز ملامح شخصية وفكر هذا العبقري.
هؤلاء الأتباع – إن صحت التسمية- كانت لهم بصمات واضحة تجعلهم شركاء في ما وصل إلينا من نتاج فكري وثقافي وعلمي لهؤلاء الرموز، لأنهم قاموا بحقهم، وأخذوا على عاتقهم العمل على مد آفاق هذا الإنتاج.
في المقابل، نستعرض مثالا على النقيض تماما، لأحد الجهابذة السابقين الذين اندثرت جهودهم بسبب تخلف الهالة البشرية المحيطة بهم عن القيام بحقهم والترويج لهم. إنه الفقيه المحدِّث قاضي مصر الليث بن سعد، الذي قال عنه الشافعي: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به»، علما أن الشافعي لم ينفرد بهذا الرأي، بل قاله غيره ومنهم سعيد بن أبي أيوب، وقال عنه ابن حجر العسقلاني: «علم التابعين في مصر انتهى إلى الليث بن سعد». لكن لم يلبث علم هذا الرجل أن تبدد لأن أصحابه لم يدونوا أثره كغيره من العلماء، حتى إن الشافعي بذل جهدا في جمع ما قدر عليه من تراث هذا الرجل بصعوبة.
لا تخلو البلاد من عباقرة في شتى المجالات، لكن وصول إنتاجهم إلى الجماهير ضعيف، وما ذلك إلا لضعف اهتمام أتباعهم وطلابهم ومحبيهم في القيام بهم، والترويج لهم، وإيصال كلمتهم ونفعهم إلى الناس.
هي مسؤولية الأتباع، أن يستشعروا أهمية وجودهم في حياة الرموز والقدوات والقادة وأنهم شركاء لهم، وطالما أن بضاعتهم ذات نفع وفائدة للأمة، فينبغي على هؤلاء الأتباع والهالة البشرية المحيطة بالأفذاذ أن يقوموا بحقهم، لئلا يكونوا كحال الليث: أصحابه لما يقوموا به، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

كاتبة أردنية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد