السياحة والإعلام الرقمي

mainThumb

17-07-2025 01:09 AM

في زمنٍ لم تعد تُحسم فيه معارك التأثير من فوق المنابر أو عبر الكُتيّبات السياحية، بل من خلال بضع ثوانٍ على الشاشة، بات حضور المكان في المخيلة العالمية مشروطًا بظهوره في السرد الرقمي. صارت الرحلة تبدأ من "سحب الشاشة للأعلى"، لا من حجز تذكرة. وصار يُعاد تشكيل الخريطة، لا عبر الجغرافيا، بل عبر الخوارزميات.

في هذا السياق، تتجلى التجربة الإيطالية كواحدة من أكثر النماذج إثارة للتأمل. أغنية عفوية ذات طابع محلي انتشرت على منصة "تيك توك"، مرفقة بمقاطع من بلدات ريفية إيطالية غير مشهورة. النتيجة؟ ازدهار سياحي في مناطق لم تكن لتظهر على الرادار لولا "القصة المصورة"، لا الإعلانات الرسمية. السؤال هنا ليس: كيف حدث ذلك؟ بل: لماذا لا يحدث شيء مشابه في البترا، ووادي رم، وأم قيس، ومآثرنا العربية المنسية؟

تمتلك الدول العربية، والأردن على وجه الخصوص، رصيدًا حضاريًا وسياحيًا هائلًا، لكن هذا الرصيد لا يُستثمر بما يتلاءم مع أدوات التأثير الحديثة. إن الأثر الذي لا يُصوّر يُمحى، والموقع الذي لا يظهر في الفيديوهات لا يدخل خيال المسافر. أماكن مثل البترا ووادي رم تظهر أحيانًا في الأفلام العالمية، لكنّ حضورها في منصات التواصل الاجتماعي لا يزال ضعيفًا نسبيًا وغير ممنهج، رغم إمكانية توظيفه لبناء قصص مؤثرة وجاذبة.

وقد بدأت تظهر مؤخرًا بعض المبادرات الأردنية التي تشير إلى وعيٍ متزايد بأهمية الإعلام الرقمي في الترويج السياحي. ففي مدينة الفحيص، قام مجموعة من الشباب بإنتاج فيديوهات قصيرة تسلّط الضوء على الطابع التراثي للمدينة، من الأزقّة الحجرية إلى المقاهي الثقافية، ولاقى أحد هذه المقاطع انتشارًا واسعًا على "إنستغرام" و"تيك توك"، ما دفع بعض الزوّار إلى تضمين الفحيص في خططهم السياحية. وفي جرش، نظّم فريق من طلاب الإعلام مشروعًا رقميًا يعيد تقديم المدينة الأثرية من خلال "قصص تفاعلية" ومقاطع موسيقية توظّف السرد البصري بأسلوب عصري. ورغم محدودية الموارد، فإن هذه النماذج تثبت أن الأثر الرقمي لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة بقدر ما يحتاج إلى رؤية، وشغف، وفهم لطبيعة المنصات الحديثة.

تؤكد الدراسات الحديثة هذه الفجوة بين الإمكانيات والمتاح؛ فقد أظهر استطلاع أمريكي عام 2023 أن 60% من مستخدمي تيك توك أصبحوا مهتمين بزيارة وجهة جديدة بعد رؤيتها على المنصة، فيما قام 35% فعليًا بالسفر إلى وجهات تعرّفوا عليها من خلالها. هذا يعني أن الشاشة لم تعد أداة تسويق، بل محرّك قرار سياحي.

في الأردن، تشير الأرقام إلى أن عدد السياح في عام 2022 تجاوز 5 ملايين زائر، مما يجعله من بين أكثر الدول العربية استقبالًا للسياح. ومع ذلك، فإن غالبية هؤلاء الزوار لا يصلون نتيجة حملات رقمية مدروسة، بل بفعل السمعة التاريخية المتراكمة أو السياحة الدينية والأثرية التقليدية. ولو تم توظيف الإعلام الرقمي بشكل ذكي، فإن هذا الرقم قابل للزيادة النوعية، لا الكمية فقط.

تندرج هنا السياحة الرقمية كأداة مركزية في هذا التحول. فالجولات الافتراضية بتقنيات الواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR) قادرة على إعادة إحياء المدن المنسية، وتمكين الجمهور العالمي من خوض تجربة "المكان قبل السفر إليه". تخيّل أن يرتدي طالب في طوكيو نظارة VR فيرى نفسه يتجول بين أعمدة جرش، أو أن يشاهد سياح في أستراليا محاكاة افتراضية لمسار البتراء قبل حجز تذاكرهم.

أما الإعلام القصصي، فله شأن آخر. إذ أن تأثير المسلسلات الكورية على جذب السياح إلى سيؤول، أو نجاح المسلسلات التركية في صناعة رمزية إسطنبول، دليل على أن السياحة ليست فقط مشهدًا بصريًا، بل سردًا ثقافيًا. القصة الجيدة قد تكون أهم من المنظر الخلاب، لأن الإنسان لا يسافر فقط لرؤية الجبال، بل ليعيش قصة ترويها.

ولكي تستثمر الدول العربية هذا التحول، لا بد من تطوير استراتيجيات إعلامية وسياحية متداخلة، تقوم على دعم صانعي المحتوى، وتوفير البنية التقنية، وتسهيل الوصول إلى المواقع السياحية للتصوير والنشر، وخلق رموز بصرية حديثة قادرة على اختراق الفضاء الرقمي.

كما ينبغي تأسيس حاضنات إبداعية بالتعاون بين وزارات السياحة، والشباب، والثقافة، والجامعات، لدعم المحتوى الرقمي السياحي، خصوصًا في المحافظات والمناطق الأقل شهرة، بحيث تُصبح كل مدينة "قصّة رقمية محتملة"، وكل معلم أثري "فيديو ينتظر أن يُصوّر".

ليست السياحة مجرد قطاع اقتصادي. إنها قوة ناعمة شاملة، تعزز الهوية، وتخلق فرص العمل، وتفتح نوافذ حضارية بين الشعوب. والإعلام الرقمي، حين يُدار بذكاء، يمكن أن يحوّل أي موقع على الخريطة إلى مركز عالمي للاهتمام، إن القصة لا تبدأ من المطار، بل من الشاشة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد