ادعُ للموضوعية ثمَّ افعل ما تشاء

mainThumb

02-08-2025 11:43 PM

يتحدَّث الأدباء والفلاسفة عن القيم الحميدة، لكن أقصى ما يثير الغضب هو رؤية الكثير منهم يحيدون عنها، وكأنه لغو مصنوع للاستهلاك الشعبي، وبعيد عن التنفيذ من قبلهم. لكن أيضًا، يذكر التاريخ بعضاً من العلماء والفلاسفة ممن عاشوا وماتوا بسبب التمسُّك بمبادئهم، ومن هؤلاء كان جاليليو وسقراط، وغيرهما الكثير ممن صاغوا تاريخ النشرية ودفعوها للارتقاء. وبالتفكير قليلًا، قد يلح سؤال على أفكارنا، ألا وهو: ألا يزال الإنسان المعاصر باستطاعته التمسُّك بأفكاره حتى ولو يعني هذا تعرُّضه للتنكيل أو حتى الموت؟ وإذا كانت الإجابة بالسَّلب، متى توقَّف البشر عن الإخلاص لمبادئهم؟
لقد أجابت على هذه التساؤلات وما يشابهها الكاتبة الأمريكية الروسية الأصل أيان راند Ayan Rand (1905-1982) التي لم يحتف بأفكارها القادة ومن بلغوا أعلى الدرجات في السلَّم الاجتماعي فقط، بل أيضًا الكثير من الشعوب؛ والسبب هو الترويج لأهمية منهاجها الفلسفي ومدى مواكبته للتغييرات في العصور الحديثة.
ولدت أيان راند تحت اسم «أليسيا زينوفينيا روسينباوم» Alisa Zinovenya Rosenabum، في روسيا لأسرة برجوازية في مدينة سان بطرسبرغ، وكان والدها يعمل صيدلانيًا ويمتلك صيدلية. وتلقَّت أوَّل صدمة لها عندما كانت في الثانية عشرة فقط من عمرها، عندما قامت ثورة «تشرين»، التي على إثرها تولَّى البلاشفة حكم البلاد تحت قيادة فلاديمير لينين. وعلى إثر هذا، تمَّ تأميم الصيدلية، ووجدت نفسها مع أسرتها بدون مصدر رزق، فغادروا المدينة ليجابهوا أيَّاماً عصيبة، قضوا بعضها لا يجدون فيها حتى لقمة العيش لسد جوعهم. وبعد أن عادوا للمدينة مرَّة أخرى، واستطاعوا تدبير أوضاعهم، أصرَّت على الالتحاق بالجامعة، وكانت من أولى الدفعات النسائية التي التحقت بالجامعة، ودرست في كلية «التربية الاجتماعية»، حيث تخصصت في دراسة التاريخ. لكنها طردت من الجامعة مع عديد آخرين فيما يسمى بحقبة «التطهير»، وكانت حينها قبيل التخرُّج. لكن اليأس لم يصبها، وعندما استأنفت الحكم هي والآخرون بعد زيارة بعض من العلماء للجامعة، فتح أمامها مرة أخرى الباب للالتحاق بالجامعة، فأكملت دراستها ونالت شهادة التخرُّج.
كانت زيارتها الأولى للولايات المتحدة نافذة جديدة فتحت أمام عينيها عالماً مختلفاً. ولهذا السبب، ذهبت بعد التخرُّج لزيارة أقربائها في شيكاغو، ووعدت أهلها بالرجوع إلى روسيا مرَّة أخرى، بيد أنه من المؤكِّد أن ذلك لم يحدث، بل إنها أيضًا بعد فترة تركت أقرباءها وولاية شيكاغو، وتوجَّهت إلى ولاية نيويورك. وكانت سعادتها بالغة عندما اختيرت لتكون من ضمن المجاميع (الكومبارس) في فيلم «ملك الملوك» King of Kings، وحينها تاقت لأن تصير كاتبة سيناريو. ومن ثمَّ، وبعد أن غلبتها الحماسة، التحقت بالجامعة مرة أخرى. لكنها درست في هذه المرَّة كتابة السيناريو، وقبلها نشأت قصة غرامية بينها وبين الممثل الصاعد فرانك أوكونرFrank O’Coner، ونجم عن تلك القصة زواجهما، الذي مكَّنها من إقامة دائمة بالولايات المتحدة، وبعدها حصلت بسهولة على الجنسية الأمريكية.
وبعد محاولات لم تكلّل بالنجاح في كتابة السيناريو والروايات، كتبت رواية «المنبع» The Fountainhead (1935) التي منحتها شهرة واسعة وكانت السبيل إلى شهرتها حتى يومنا هذا، والتي أرست من خلالها أيضًا قواعد مبدئها الفلسفي الرأسمالي البحت، الذي أعطت له اسم «الموضوعية» Objectivism والذي أيضًا من أجله هجرت فيما بعد الكتابة الأدبية وتفرَّغت للبحث الفلسفي، وأسست جريدة ومؤسسة تحمل اسمها لنشر هذا الاتجاه الفكري.
ومفهوم «الموضوعية» عند أيان راند، يتطابق تمامًا مع الأفكار التي يتم ترويجها بشدة عالميًا في الوقت الحالي، وكذلك تم تطبيقها بداية من منتصف القرن الماضي في الولايات المتحدة، لما لها من قيم تدعو إلى الاستقلالية والكدّ والعمل بشرف لتحقيق الهدف والإحساس بالقيمة الشخصية. ومن الطريف أن العديد من الرؤساء الأمريكيين وقعوا في غرام رواية «المنبع» التي تجسِّد هذا الاتجاه الفلسفي، وقدمته للعامة بشكل يسير ومحبب يلامس أبناء المجتمع ويعدِّل من مسار اتجاهاتهم الفكرية بسلاسة.
وتؤكِّد أيان راند أن «الموضوعية» يمكن وصفها بأنها تلقي الضوء على «مفهوم الإنسان بوصفه كائناً بطولياً، فسعادته هي الهدف الأخلاقي لحياته، والإنجاز الإنتاجي هو أنبل نشاط له، والعقل هو الحقيقة الوحيدة المطلقة بالنسبة له». وبناء على ذلك، فإنها ترى أن دور العقل في حياة الإنسان يتعاظم كلَّما زاد التطوُّر، وكان ذلك سببًا مباشرًا في تطوير فلسفة أخلاقية جديدة قوامها أخلاق المصلحة الذَّاتية العقلانية التي يكون قوامها ضربًا من ضروب الأنانية المحمودة، والتي تدور في فلك الرأسمالية غير الاقتصادية.
وتشير راند في الفلسفة الموضوعية إلى أن الواقع موجود بشكل مستقل عن الوعي، وأن البشر لديهم اتصال مباشر بالواقع من خلال الإدراك الحسي. وبناء على هذا، فإنه من السهل على أي فرد الوصول إلى المعرفة الموضوعية عبر الإدراك، وكذلك عبر عملية تكوين المفهوم والمنطق الاستقرائي، أي أن الاتصال المباشر بالتجربة والنتائج التي تكون إدراكنا بالشيء تصبح سبيلًا لفهم ومعرفة ما يدور حولنا من أشياء.
لكنها أيضًا تحذَّر من فخ الوقوع في التشعُّب، فإن الغرض من الإدراك لديها هو الوصول إلى سعادة الفرد بشكل أخلاقي عبر تطبيق أسس من الأنانية العقلانية، أو المحسوبة بدقة، التي تُظهر الاحترام الكامل لحقوق الفرد. وكانت راند تعتقد أن للفن دورًا جوهريًا في تشكيل الوعي الاجتماعي؛ لأنه يعمل من خلال المنصَّات المرئية على تحويل أفكار مجرَّدة جامدة إلى واقع ملموس، ويكون هذا عبر الشكل الدرامي الذي يعيد إنتاج الواقع بشكل انتقائي، وفي تلك العملية يحدث تحويل الواقع إلى عمل فنّي تغلب عليه الطبيعة المادية الملموسة التي تجبر المشاهد على فهم أصعب الأفكار وكذلك الاستجابة لها عاطفيًا.
وبناء على ذلك، استطاعت راند تمرير مبدأ «الأنانية العقلانية» باعتباره مبدأ شديد الأهمية وشديد الخطورة. ويشدد هذا المبدأ على ضرورة إعطاء الأولوية للمصلحة الشخصية والقيمة الخاصة، لكن في الوقت نفسه لا يجب أيضًا الاعتداء على مصالح الآخرين أو، في نفس الوقت، التضحية من أجل الآخرين. تُؤدي هذه العقلية إلى وجود حياة أكثر إشباعًا وأصالة؛ حيث يعمل كل فرد على النهوض بذاته دون إعاقة الآخرين عند تحقيق أهدافهم.
وبعد الوصول إلى تلك المعرفة عن طريق الإدراك، يصبح السبيل لحياة مرضية هو اتباع القيم الشخصية، وتجنّب الوقوع في فخّ الضحية، وتنمية تقدير الذات، وممارسة الصدق، وكسب المال بشرف، والمثابرة في مواجهة التحديات، والالتزام بالنموّ مدى الحياة، وإن اتباع القواعد الأخلاقية الداخلية أمر بالغ الأهمية، حتى لو تعارض أحيانًا مع المصلحة الشخصية المباشرة. ومن ثم، يصبح تقبّل المسؤولية الشخصية وتقدير الذات سبيلاً إلى مزيد من السعادة والاكتمال. في حين أن الافتقار إلى الشجاعة في السعي لتحقيق الأهداف يُمكن أن يُؤدي إلى فقدان تقدير الذات والوقوع في فخ علاقات ومهن غير مُرضية. وتوكِّد راند أن بناء تقدير الذات من خلال التقييم الذاتي العقلاني والتأثيرات الإيجابية أمرٌ أساسي للنمو الشخصي الذي يفضي إلى تكوين علاقات أصيلة وتحقيق الذات اللذين يقومان على الصدق وكسب المال بشرف.
وعن علاقة الفرد بالمال، تلفت راند النظر إلى أن التعامل باحترام مع المال يُؤدي إلى حياة أكثر معنى يزداد معها مقدار الرضا الشخصي، ويساعد المرء في التغلب على الصعوبات التي تجابهه في رحلته الشخصية عبر مراحل حياته المختلفة، علمًا أن تلك الصعوبات جزء أساسي من النمو الشخصي. وكما هو رائج في عصرنا الحالي، تدعو راند إلى الثقة بالقوة الداخلية التي تقود إلى الحياة المنشودة رغم التحديات.
وبالرغم من جميع المبادئ البرَّاقة التي كانت تروِّج لها أيان راند، فقد اتهمها الفلاسفة بأن معاييرها كانت تفتقر إلى المنهاج العلمي، وأنها لم تكن تطبِّق تلك المعايير على نفسها، وأكبر دليل على هذا أنه بالرغم من مهاجمتها لأي نظم اشتراكية، كانت أولى المستفيدين من نظام التأمين الصحي بعد إصابتها بالسرطان.
وبعد مائة عام تقريبًا، يلاحظ أن مبادئ أيان راند التي لم تستطع تطبيقها بأكملها على نفسها، أصبحت رائجة ويتم تطبيقها في جميع أنحاء العالم، بالرغم من أنها لم تكن قط قائمة على منهاج علمي، كما أكد الفلاسفة والمفكرون المعاصرون لها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد