بوعلام صنصال وقرية الألماني

mainThumb

02-08-2025 11:44 PM

بدأت متاعب بوعلام صنصال في الجزائر عام 2008، عندما أصدر روايته الأشهر «قرية الألماني»، قبل ذلك التاريخ، كان الكاتب مرحبا به ويجري الاحتفاء به في بلده الأم. فقد ترجمت اثنتان من رواياته السابقة إلى العربية، وصدرتا في الجزائر كذلك. ولكن عندما غامر في التخييل، ومارس حقه في الكتابة، ووسع من حدود الأدب وأصدر «قرية الألماني»، انقلبت حياته، وصار محل سخط، وزادت الضغوط عليه وصار يسمع ما لا يحتمل عاقل سماعه. يحكي صنصال في هذه الرواية عن ضابط ألماني التحق بحرب التحرير الجزائرية (1954-1962). ثم اعتنق الإسلام، غيّر اسمه وصار جزائريا عقب الاستقلال، قبل أن يلقى مصرعه على يد جماعات متطرفة، في تسعينيات القرن الماضي، عندما انزلقت البلاد في دوامة العنف والدم.
نظريا لا يبدو أن هناك إشكالا في الكتابة في هذا الموضوع، لاسيما أننا نتحدث عن رواية، وأن الكاتب من حقه أن يتخيل. لكن بعض التيارات المحافظة لم تعجبها الرواية، بل لم يعجبها التخييل في حد ذاته، وانبرت في محاكمة الكتاب، في السر ثم في العلن، وأكثر ما أزعجها أن يزج صنصال بشخصية أجنبية في حرب التحرير، فقد سادت سردية واحدة، مفادها أن تلك الحرب أعلنها جزائريون، وقاموا بها ولم يشارك فيها غيرهم. لم يغفروا للكاتب أن زج بأجنبي في هذه الحرب، فاختفت الرواية من على رفوف المكتبات في الجزائر، ولم يتجرأ أحد على ترجمتها للعربية، بل الغريب في الأمر أن من النقاد من يتحدث عنها، ويطعن في الكاتب، مع العلم أنه لم يقرأها، بل يؤسس كلامه عنها بناء على ما سمعه من أفواه الآخرين.
هكذا إذن، بسبب رواية واحدة، صار بوعلام صنصال محل قراءات سياسية لا أدبية. لم نطالع مقالا واحدا يفكك النص نقديا، أو يرد على صاحبه بناء على خياراته الفنية والجمالية، بل تمحورت القراءات على تأويلات سياسية للنص. ثم تطورت دائرة المشتكين من صنصال وبلغ بهم الحد أن قالوا، إن الرجل يعيش في هلوسات، لأنه تخيل وجود ألمانيين في الجزائر، قبل حرب التحرير وأثناءها، فقد استبعدوا هذه الفرضية، وأصروا على أن الألمان لا علاقة لهم بالبلد، ولا وجود لهم يذكر، بحكم بعد المسافة الجغرافية، وأن الأوروبيين الذين عاشوا في البلاد، كانوا فرنسيين وإيطاليين ومالطيين وإسبانيين، مع قلة من برتغاليين، أي أن الجزائر لم يعش فيها ـ زمن الوجود الفرنسي ، سوى مستوطنين من محيط البحر الأبيض المتوسط. لكن التنقيب في الأرشيف، ولاسيما في أرشيف ما وراء البحر، الذي يؤرخ لتاريخ البلد يؤكد عكس ما ذهب إليه خصوم بوعلام صنصال. لأن الجزائر كانت بالفعل مقصدا للألمان، بل أنشأت فيها قرى ألمانية، وعاشت فيها عائلات ألمانية، بل المئات من الألمان أقاموا في الجزائر وخلفوا أبناء ثم أحفادا. لكن التاريخ الألماني في البلاد جرى محوه، أو التغاضي عنه عقب الاستقلال، لأن التاريخ كتبته يد واحدة، وتم تدوينه بعين واحدة، تبصر أشياء وتغض الطرف عن أشياء أخرى.

قرى ألمانية في الجزائر
في منتصف القرن التاسع عشر، كان جنوب ألمانيا يعيش حالة ميؤوسا منها، فقد تفشت البطالة، ووجد الرجال أنفسهم غير قادرين على إعالة أبنائهم، ثم طرأت ظاهرة جديدة، من أجل الفرار من الفقر، وهي الهجرة إلى أمريكا. التي صارت تتراءى مثل الحلم في أعين بعض الألمان، لكن وجهتهم بعيدة، والطريق إليها يبدأ من فرنسا، لاسيما من موانئها الشمالية. وطرأت كذلك ظاهرة السماسرة، الذين يعدون الناس بالجنة في حال وصولهم إلى أمريكا، يبشرونهم بحياة رفاهية هناك، وأنهم سوف يظفرون بمناصب عمل وأموال وأن حياتهم سوف تنقلب إلى الأفضل. وفي عام 1846 وقعت عائلات ألمانية في المصيدة. طمعها من أجل حياة أفضل جعلها تقع في الفخ. فقد وصلت 90 عائلة (مكونة من 467 شخصا) إلى ميناء دونكيرك، وغالبيتهم من مدينة ترير الألمانية وما جاورها، قضوا ليلتهم الأولى في العراء جنب الميناء، في انتظار السمسار، الذي قبض منهم المال ثم اختفى. ثم توالت الأيام وحلمهم في الوصول إلى وجهتهم بدأ يتضاءل. فوجدت السلطات الفرنسية نفسها في حرج، إزاء عائلات بأكملها لا مأوى لها. وفي ذلك الحين كانت فرنسا قد بسطت يدها على الجزائر، وقد أخمدت ثورات شعبية، ومقاومة الأمير عبد القادر كانت في أنفاسها الأخيرة. وجاء الحل بتوطين الألمان في الجزائر.
لم تكن هذه العائلات تعرف شيئا عن البلاد التي سوف تذهب إليها، لكنها قدرت أن حالها سيكون أفضل من العودة إلى ألمانيا. ثم جرى ترحيلهم إلى مارسيليا، ومن هناك إلى المرسى الكبير في الجزائر، قبل أن يستوطنوا قرية اسمها: ستيدية. من المحتمل أن هذا المكان ليس معروفا عند عامة الجزائريين، فهي قرية تتبع ولاية مستغانم، وهي المكان الذي يمر منه محور غرينتش. صارت قرية يسكنها بالكامل ألمان، اشتغلوا في الزراعة، تربية الماشية وفي تجارة الخشب. ثم تطورت القرية، وصارت بلدة، بعدما زادت المساكن فيها، ومستفيدة من قربها من الساحل في تسهيل تجارتها. وكذلك قربها من مدينة وهران، التي كانت حاضرة وكانت لها سمعة ونشاط تجاري. كل ساكنة ستيدية كانوا يتكلمون اللغة الألمانية حصرا، ولم يحصلوا على الجنسية الفرنسية، إلا بعد الحرب العالمية الأولى (أي بعد 1918). مع ذلك فإن لسانهم لم يتغير. لاحقا تغير اسم القرية، وصارت باسم (جورج كليمنصو)، ثم استعادت اسمها الأول عقب الاستقلال (1962). وهذا نموذج واحد عن قرية ألمانية في الجزائر، لأن ملفات الأرشيف تخبرنا عن قرى ألمانية أخرى في وسط البلاد وشرقها. ما يؤكد ما ذهب إليه بوعلام صنصال في روايته، وأن يتخيل ضابطا ألمانيا يلتحق بحرب التحرير، فذلك ليس من باب الصدفة، بل لأن التاريخ يخبرنا أن مواطنين له ولدوا وعاشوا في الجزائر، ما يبرر ما جاء في رواية «قرية الألماني»، هذه الرواية التي لا تزال تخضع لقراءات وتأويلات سياسية، ويجري غض الطرف عن قيمتها الفنية والأدبية.

كاتب جزائري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد