«فاشر» السودان

mainThumb

11-08-2025 12:36 AM

نؤجل نقاش الموقف الدولي والإقليمي تجاه حرب السودان، والذي بدأناه في مقالنا السابق، لنركز اليوم على مأساة الفاشر التي وصلت حدا يصبح الصمت معه تواطأ في الجريمة، على أن نواصل مناقشة المؤجل في المقال القادم.
في الماضي، كانت الرمال بلونها الذهبي تروي حكايات الزمن الغابر الجميل، تقص عليك كيف كانت الفاشر، أو «الفاخر»، تقبع كجوهرة تكلل تاج «مجلس السلطان» وتمنحه رونقه، عاصمةً للثقافة والاقتصاد والتعايش، وتتهادى في أروقتها أنفاس التاريخ العتيق. أما اليوم، فالرمال تخضبت بالمسفوح الأحمر القاني وهي تصرخ أنينا، كيف صارت الفاشر سِفْراً مفتوحاً على صفحات من الدمع والدم والألم، وشاهدا على مأساة إنسانية تثقل ضمير العالم. كانت الفاشر، بأسواقها الصاخبة ومآذنها الشامخة ومدارسها العامرة، نابضة بحياةٍ نسجتها أيدي قبائل متعايشة في تناغمٍ عجيب. لكن لهيب نيران الصراع الدامي، مزّق هذا النسيج الثمين، وتحوّلت شوارع المدينة التي كانت تعجّ بالحرفيين والتجار والأطفال الضاحكين، إلى مسارح للرعب، وصارت أصوات القذائف هي الآذان الجديد، ودخان الحرائق هو البخور الذي يرتفع فوق أنقاض البيوت والكرامة.
مأساة الفاشر وكأنها وحش متعدد الرؤوس، اقتات بدماء وأجساد الآلاف من الأبرياء، ذُبحوا لمجرد انتمائهم، وتحوّلت الأراضي الخصبة إلى مقابر جماعية، صامتةٌ تشهد على فظاعة لا يستوعبها عقل. وفُرض على سكان المدينة، في ظل انعدام وصول المساعدات، أكل أعلاف الحيوانات، وانتظار الموت إثر تفشي الكوليرا والأوبئة. وتحوّل الأهالي إلى أرقام في معادلة التشريد القاسية لتصبح مخيمات النزوح مدناً موازيةً للفقر والبؤس. وسُحقت الحضارة وتراث الفاشر الثقافي والاجتماعي، ودُمرت البنى التحتية والمستشفيات ومؤسسات التعليم، وخُنق التعدد الثقافي الذي كان مصدر قوة ليُستبدل بجراح عميقة من الشك والكراهية.

ورغم أنها من أسوأ الأزمات في التاريخ الحديث، إلا أن رد الفعل الدولي والإقليمي تجاهها، اتسم بالتقاعس الصارخ والفادح والصادم. فنداءات الاستغاثة من سكان المدينة ومنظمات الإغاثة، كثيراً ما ضاعت في دهاليز السياسة والمصالح، مولدة شعورا عميقا بالخذلان توطن قلوب أبناء دارفور، كأن العالم قد قرّر أن يغمض عينيه عن مشهد إبادة بطيئة. فردود أفعال الأمم المتحدة اقتصرت على بيانات «القلق العميق» دون تحرك ملموس لفرض قرارات ملزمة لفتح الممرات الإنسانية أو محاسبة المتحاربين على انتهاكات القانون الدولي، رغم تصنيف دارفور كمنطقة كوارث من المستوى الأعلى. والدول الإقليمية ذات الصلة تتحمل مسؤولية تاريخية وجيوسياسية حيث فشلت في الإيفاء بمستحقاتها، بل بعضها يمد أطراف الصراع بالأسلحة. ونداءات المنظمات كبرنامج الأغذية العالمي، تشتكي من نقص التمويل الحاد، رغم أن السودان يشهد أسوأ أزمة جوع في العالم وفق الأمم المتحدة. وتسود المعايير الازدواجية والتناقض حيث تُثار ضجة دولية عالية لأزمات أخرى بينما تُدفن معاناة مليوني محاصر في الفاشر تحت صمت مطبق. وبالطبع لا معنى للإنسانية إذا كانت انتقائية!.
إن معاناة الفاشر اليوم هي جرس إنذار صارخ للضمير العالمي واختبار حقيقي لإنسانية العالم. وإنقاذ سكانها ليس عملاً خيرياً، بل هو واجب إنساني وأخلاقي وقانوني عاجل لإنقاذ مدينة تاريخية وشعب أبى إلا أن يصنع من الصمود عنواناً له في زمن المحن. صحيح، إن الحل الدائم لمحنة الفاشر ودارفور والسودان ككل، يبدأ باستئناف جاد للمفاوضات لوقف الاقتتال تمهيدا لإحياء العملية السياسية الشاملة لإنهاء الحرب في البلاد. ولكن، الوضع الراهن في المدينة المحاصرة، ولأجل إنقاذ سكانها من الموت البطيء، يتطلب في البداية، أن تنفذ الأمم المتحدة مبدأ «مسؤولية الحماية» الذي أقرته عام 2005، والذي يُلزم المجتمع الدولي بالتدخل المباشر عند فشل الدولة في حماية مدنييها، إضافة إلى تنفيذها لتحرك عاجل ومتعدد المستويات، يشمل:
*الضغط على الأطراف المتحاربة لوقف إطلاق النار فورا ودون شروط مسبقة، وهذا هو المدخل الأساسي لأي حل إنساني.
*فتح ممرات إنسانية آمنة ومستدامة تحت رعاية دولية تسمح بدخول كميات كبيرة من الغذاء، المياه، الوقود، والأدوية والمستلزمات الطبية بشكل منتظم، مع ضمان عدم تعرض العاملين في المجال الإنساني للخطر.
*ممارسة ضغط دولي مكثف، سياسي واقتصادي، بمشاركة الدول الإقليمية ذات الصلة، على قوات الدعم السريع لإنهاء الحصار بشكل كامل، والسماح بحرية حركة المدنيين داخل المدينة وخارجها، وإعادة فتح الأسواق.
*نشر مراقبين دوليين للإبلاغ عن الانتهاكات وضمان الالتزام بوقف إطلاق النار ووصول المساعدات.
*الإصلاح العاجل لمحطات المياه، وتوفير وقود لمولدات المستشفيات، وإعادة تشغيل الخدمات الحيوية بمجرد تحسن الأوضاع الأمنية.
*إنشاء لجنة تحقيق دولية في جرائم الحرب بالمدينة، تمهيداً لمحاكمات مستقبلية.
لكن، ورغم الألم والجراح، لم تمت الروح في عيون الصامدين في أطلال الفاشر وفي خيامهم، في جهود العاملين في المجال الإنساني رغم المخاطر، وفي ذاكرة الشيوخ الذين يروون للأبناء جمال مدينتهم الغابر. والفاشر اليوم لم تعد مجرد بقعة دم على الخريطة، بل رمزٌ يتحدى النسيان. رمز لفشل الإنسانية في منع أبشع جرائمها، رمز لقسوة الصراعات التي تطحن البشر والحجر. رمز يستدعي التساؤل الجوهري: إلى متى يظل الدم أرخص من النفط والأرض؟ وإلى متى تظل معاناة شعبٍ ما رهينة حسابات السياسة الباردة؟ ورمز لصمود الإنسان الذي يرفض الانكسار حتى وهو في قاع الجحيم. ومأساة الفاشر ليست مجرد جرح نازف في الحاضر، بل هي ندبة عميقة في جبين المستقبل، ستظل تقطر دما وقيحا. والكتابة عنها هي محاولة لإيقاظ الضمير، وتوثيق الألم الذي قد تبتلعه رياح الصحراء والنسيان. إنها دعوة لإعادة النظر إلى دارفور، ليس كملفٍ سياسيٍّ مغلق، بل كقصة إنسانية مفجعة تتطلب عدالةً حقيقيةً، ومصالحةً عميقةً، وإعادة بناء،ٍ لا لمباني المدينة فحسب، بل لقلوب أبنائها المكلومة، ولحلم العيش بسلام على أرض كانت، ويمكن أن تعود، جنةً في رمال السودان. فهل من مصغ لأنين الفاشر وهو يعلو من أعماق الرماد؟
كاتب سوداني



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد