السخرية من السياسيين

mainThumb

10-09-2025 12:09 AM

في السنوات الأولى للثورة التونسية بعد سقوط نظام الرئيس الراحل بن علي، انفجرت حرية إعلامية بلا حدود لم يسبق أن عرفتها البلاد في تاريخها.
انطلقت الألسن والأقلام كما لم تفعل من قبل ولم يعد هناك من خطوط حمراء ولا برتقالية ولا غيرها، وما عاد هناك من موضوع أو قضية أو شخصية محصّنة ضد التناول والشرح والتحليل، بل والسخرية اللاذعة إلى أقصى الحدود.
في تلك الأجواء التي اختفت الآن بالكامل، كان هناك برنامج تلفزيوني من الدمى المتحركة يتخذ من الشخصيات السياسية مادة للسخرية والتندر لم يسلم منها أحد. في برنامج «القلابس» كما كان يسمى، والمستوحى من برنامج فرنسي مشابه، دمى متحركة بأشكال أبرز المسؤولين والفاعلين وقتها، من بينهم مثلا الرئيس وقتها منصف المرزوقي ورئيس حكومته حمادي الجبالي والباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي وغيرهم كثير.
كان العمل متقنا فنّيا، مضحكا رغم بعض المبالغة التي لا يخلو منها برنامج من هذا القبيل، ولهذا كان البرنامج الذي بث على قنوات خاصة ناجحا وشعبيا. وبسبب ما قيل وقتها عن حقوق ملكية أو أشياء من هذا القبيل، اختفى عام 2013 هذا البرنامج الذي لم يكن له أي نظير عربي على الإطلاق، ولن يكون على الأرجح، لأنه جعل من رموز السلطة، وهي في العرف السياسي العربي التقليدي المغلق أشبه بـ«الأنبياء» محل تندّر يربك ما يراد لهؤلاء دائما من «هيبة» لا مجال للمس منها.
البرنامج الفرنسي الذي مثّل المرجع والنموذج للبرنامج التونسي، وكان يبث على تلفزيون «كنال بلاس»ونجمه الأبرز من بين الدمى أحد أشهر مقدمي الأخبار هو «باتريك بوافر دارفور» لم يترك شخصية سياسية إلا و«عبث» بها وخاصة الرؤساء، كان أطرفهم جاك شيراك، لكنه اختفى هو الآخر عام 2018 بعد ثلاثين عاما كاملة. الإعلام الأمريكي أيضا عرف هذا النوع من البرامج على شاشة «فوكس نيوز» بالتعاون مع القناة الفرنسية، ولو أن الأسلوب الأمريكي الأشهر في نقد السياسيين والسخرية يقوم به مقدمو برامج ساخرة، بأسلوب تمثيلي مبدع، من أمثال جون ستيواردت في برنامجه «ذي ديلي شو» الذي سار على منواله المصري باسم يوسف في برنامجه «البرنامج» قبل أن يضيّق عليه الخناق فيختفي. هناك أيضا في أمريكا برامج سياسية من هذا القبيل يقدمها ستيفن كولبير أو جون لويس وبرنامجه الشهير «لاست ويك تونيت».
لم نستحضر البرنامج التونسي الفقيد ونظيره الفرنسي الراحل، والمصري كذلك، مع بقاء البرامج الأمريكية، وربما غيرها في دول غربية مختلفة، سوى من باب «الغيرة» من أن من هم في الولايات المتحدة من نجوم هذا النوع من البرامج يتمتعون بشخصية مثيرة ومغذّية باستمرار لمادتهم المقدّمة مثل الرئيس ترامب، في حين لا أحد يقتنص المادة الغنية للعادة التي توفرها كل من الساحتين التونسية والمصرية.



لنبق في الساحة الأولى تحديدا، لأن المصريين أولى بالخوض في شؤون الثانية، فقد أصبحت اللقطات التي يمكن لبرنامج ساخر أن يلتقطها أكثر من أن تعد، بل هي أكثر من الهمّ على القلب كما يقول المثل الشهير. نجم هذه اللقطات، بلا جدال ولا منافس على الإطلاق، هو الرئيس قيس سعيّد لكنه ليس وحده فعدد من مناصريه والمتزلفين له ونواب برلمانه لا يقلّون عنه «إبداعا» في الكثير من المواقف والتصريحات.
لنتخيّل للحظة ما يمكن لبرنامج تلفزيوني تونسي ساخر أن يقدّمه انطلاقا مما يقوله أو يفعله قيس سعيّد الذي سبق للإعلام الساخر أن قلّد طريقة حديثه الغريبة حين كان يأتي ضيفا على بعض الحوارات السياسية، أما بعد ما نصّب نفسه رئيسا بسلطات فرعونية فالأمر باب مستحيلا، اللهم ما يقوم به بعض «المغامرين» في مواقع التواصل وأغلبهم في الخارج.
لنتخيّل قليلا دمية تتقمّص شخصية سعيّد وتشرع في تقليد خطبه الخشبية المكرّرة بلا ملل عن «الخونة والعملاء والمؤامرات واللوبيات وحرب التحرير والوطنيين الصادقين» وغير ذلك مما حفظه الناس عن ظهر قلب، أو حين يجلس ويأتي بوزراء جامدين على كرسي أمامهم ليلقي أمامهم نفس الخطاب، أو ما يقوله من غرائب في زياراته القليلة إلى الخارج أو تلك في زياراته الليلية إلى بعض المواقع في البلاد.
وزراء سعيّد المتعاقبون لا يتحدثون تقريبا، وبالتالي فلن يكونوا مادة للسخرية إلا في حالات نادرة جدا، عكس ما يصرّح به بعض نواب برلمانه فلهم من التصريحات ما يشكّل مادة دسمة للغاية للضحك ويكفي هنا إيراد ما قاله بعضهم ردا على مشروع قانون قدمه نائبان أمريكيان في الكونغرس لفرض عقوبات على تونس تحت عنوان «استعادة الديمقراطية في تونس» فقد قال أحدهم بأن تونس ستكون مقبرة للأمريكان مثل فيتنام!!، فيما قالت أخرى بأن برلمانها سيقدم مشروع قانون لاستعادة الديمقراطية في أمريكا!!، أما أطرفهم على الإطلاق فهو ذلك النائب الذي صرّح بأن «تونس أصبحت أيقونة للحرية» إيه والله!!
ربما لا نحتاج برنامجا ساخرا أصلا حين نرى هذه التصريحات لنضحك، إذ شرّ البليّة ما يضحك، ولكنه ضحك كالبكاء.

كاتب وإعلامي تونسي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد