الياس خوري وغارسيا ماركيز

mainThumb

15-09-2025 12:24 AM

في ذكرى مرور سنة على رحيل الياس خوري (1948ـ2024)، الصديق والرفيق والزميل في هذا العمود طوال عقود؛ ثمة، في ناظر هذه السطور، ثلاثة أنساق رفيعة من حضور الراحل: الروائي رفيع الخيارات والأدوات، صاحب المشروع السردي المتعاظم منذ 1975؛ والناقد الذي بكّر في اقتراح قراءات اختراقية لافتة، منذ كتابه «تجربة البحث عن أفق»، 1973؛ والمثقف العضوي، المناضل نظرياً والمقاتل ميدانياً. وفي النسق الثالث تَدين هذه السطور، من موقع المواطنة السورية، بمقادير كثيرة متعددة، شجاعة أخلاقياً وجسورة مهنياً، من انحياز خوري إلى الانتفاضة الشعبية السورية منذ انطلاقتها في آذار (مارس) 2011؛ وقبلها أيضاً، حين فُتحت صفحات ملحق «النهار» لأوّل حوار مع الرمز السياسي والنضالي السوري الكبير رياض الترك (1930ـ2024) فور إطلاق سراحه بعد 18 سنة من شروط اعتقال همجية في زنازين آل الأسد.
تترك هذه السطور لآخرين أقدر وأمهر ميادينَ إنصاف خوري، في الصفحات التي تخصصها هذه الصحيفة لذكرى رحيله، فتتوقف عند عنصر واحد محدد في مساره الروائي عموماً؛ وفي «رحلة غاندي الصغير» 1989؛ و»مملكة الغرباء» 1993؛ و»مجمع الأسرار» 1994؛ و»باب الشمس» 1998 خصوصاً. ذلك العنصر/التقنية ينهض على نثر الحكاية الواحدة على معظم أو جميع فصول العمل، واستجماع خيوطها بين حين وآخر دون الوصول بها إلى خاتمة، وتنويع أصوات السرد وزوايا رؤية الواقعة، وتوزيع مشاركة الأطراف في صناعة الحكايات، واعتماد الإرجاء ــ والكثير من نماذجه في الواقع ــ قبل إغلاق حبكة ما، فرعية كانت أم مركزية. وليس من دون دلالة شكلية صريحة، لعلها تأخذ أيضاً هيئة المفتاح الأسلوبي إلى «مجمع الأسرار» مثلاً، أنّ خوري يبدأ 11 فصلاً من أصل 16، بعبارة متماثلة واحدة هي «هكذا بدأت الحكاية» أو «بدأت الحكاية هكذا».
وضمن طرائق تنفيذ هذا الخيار الأسلوبي، وتحت إغواء تقليب الحكاية على وجوه شتى متغايرة، أقام خوري علاقة سرد بديعة (أم هي ماكرة فنياً، قبلئذ؟) بين مذابح 1860 في جبل لبنان، ومقتل سانتياغو نصّار في رواية غابرييل غارسيا مركيز «وقائع موت معلن». وكان إبراهيم نصار، في رواية خوري «مجمع الأسرار»، قد قرّر الهجرة من لبنان إلى أمريكا الجنوبية عشية الحرب الأهلية (عام 1975)، واستبعد كولومبيا على الفور لأنها ارتبطت في ذاكرته بمذبحة تعرّض لها أحد فروع العائلة هناك. وإذا كانت حكاية المذبحة تلك غامضة، فإنّ ثمة دليلاً على حدوثها، هو الرسالة التي أعلنت للأب يعقوب نصار موت أحد أبناء عمومته في كولومبيا، وكان يدعى سانتياغو أو يعقوب.
وفي وسع المرء، عند هذه البرهة من البناء السردي في «مجمع الأسرار»، أن يعود آمناً إلى فكرة العلاقة بين الحكي والأمّة، بعد إضافة البُعد اللغوي وأثره في استقرار الهويّة والشخصيّة على النحو الذي اقترحه ميخائيل باختين في نظريته الشهير حول «المخيّلة الحوارية». ذلك لأنّ إحدى الفضائل المركزية في الكتابة الروائية إنما تكمن في قابليتها لتعدّد الأصوات وتضاعفها وحوارها، في مستوى التعبير اللغوي النَصّي كما في مستوى التعبير الشعوري والأيديولوجي. واللبناني عبد الجليل نصّار لم يتضاعف في شخصية اللبناني الثاني سانتياغو نصّار فحسب، بل تضاعف أيضاً في علاقات انهيار حدود الزمان والمكان بين الأوّل والثاني، وتضاعف أخيراً في احتلاله موقع الغريب الدائم في المكان والغريب خارج المكان، كما يوضح خوري في تعليق بالغ الذكاء: «ما هو هذا الشعور بالغربة؟ هل هو الحنين أم الوقوع في لغة أخرى؟ هل هو اقتراب من الموت أم اختلاط الحقيقة بالمنامات»؟
وهكذا فإنّ «مجمع الأسرار» رواية عن لبنان، وأبطالها الأساسيون (إبراهيم نصّار، حنا السلمان، نورما عبد المسح…) لبنانيون «أقحاح» بالمعنى التمثيلي المشار إليه أعلاه. إنهم شخصيات روائية من لحم ودم (ومن هنا صفتهم الكونية الإنسانية العامّة)، وشخصيات لبنانية مرسومة على نحو يتيح لها التعبير عن ملامح محدّدة منتقاة، تخصّ «الشخصية الوطنية» النمطية، القادرة في الآن ذاته علي الصعود إلى مصافّ المجاز الأعلى. حكاياتهم تتقاطع وتشتبك، وتتّصل وتنفصل، لكي تصنع الحكاية المشتركة العليا، التي توحّد الحكايات الفرعية وتمنحها سلطة الإخبار عن لبنان البلد تحديداً، فتقيم الروابط بين الأمّة والحكي (أو بين مصطلحَيْ الـ Nationوالـ Narrationكما سيقول الناقد الهندي هومي بابا).
وخرائط الحكاية هذه، التي أقامت الصلات بين خوري وماركيز، وبين لبنان وكولومبيا، ومصير سانتياغو نصّار/ إبراهيم نصّار؛ تتلاقى في مستويات فنية مع أساليب السرد وفنون الحكي وألعاب الرواية؛ ولكنها أيضاً، وربما أساساً وجوهرياً، تلبّي نزوع أمثال ماركيز وخوري إلى إشباع الروابط بين الحكايات وأمُمها، ويلاتها وهجراتها وحروبها الأهلية؛ أسوة بمصائر شخوص ذوي ملامح فردية وطنية، أو جمْعية كونية.
هذه بيروت (الأوزاعي، الأشرفية، ساحة البرج، سجن الرمل، ميدان السباق، السوق العمومي…) وهذه قرى عين كسرين ونيحا وقانا وحمّانا؛ والأماكن في رواية ماركيز لا تتبدى في القرى والبلدات الكولومبية وحدها، لأنّ الخلفيات الثقافية والعادات الاجتماعية وحدث الزفاف الدامي ذاته، تلتقط أمّة تحكي، ووقائع سرد تعبر المحلي إلى الكوني.
… هي، في مظهر آخر عبقري الأثر، بعض السبب وراء صلات الوصل بين ماركيز وخوري !



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد