المرحلة الخفية للبحث عن عمل

mainThumb

27-09-2025 12:19 PM

بالنسبة للعديد من الخريجين الجدد، تبدو رحلة البحث عن عمل وكأنها سلسلة من المحاولات المرهقة والمقابلات التي لا تنتهي وصياغة لا تنقطع لرسائل التقديم. لكن هناك مرحلة مبكرة وأساسية في هذه الرحلة يصفها بعض المختصين بمصطلح بسيط وذو دلالة واضحة : مرحلة الصيد. في هذه المرحلة يمد الخريج شبكته على أوسع نطاق، يختبر اتجاهات متعددة، يتواصل مع أشخاص جدد، يجمع معلومات، ويصبر حتى تأتيه الفرصة المناسبة. الأمر ليس عشوائياً ولا يعتمد على الحظ، بل هو أسلوب مقصود ومدروس تزيد من خلاله فرص الحصول على عمل مناسب.
مرحلة "الصيد" تعني الانفتاح على خيارات واسعة وعدم حصر الجهد في التقديم على وظائف معلنة فقط. إنها مرحلة استكشاف وتجريب، حيث يبني الخريج شبكة من العلاقات، يرسل رسائل تعريفية للجهات التي يهتم بها، يشارك في لقاءات مهنية، ويجرب صياغات مختلفة لسيرته الذاتية أو لخطاب التعريف بنفسه. الهدف الأساسي في هذه المرحلة ليس فقط إيجاد وظيفة مباشرة، بل جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، وتوسيع دائرة العلاقات، وفتح أبواب لفرص قد لا تكون معلنة على الإطلاق.
أهمية هذه المرحلة تؤكدها دراسات علمية عديدة في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس المهني. فقد تبين أن الخريجين الذين يمارسون البحث عن العمل بأساليب متعددة ومنظمة تزيد احتمالية حصولهم على وظيفة أسرع وبجودة أعلى. كما أن العلاقات "الضعيفة" أو البعيدة؛ مثل معارف الأصدقاء أو زملاء الدراسة الذين لم يسبق التعامل معهم بشكل مباشر؛ تمثل مصدراً مهماً للفرص، لأنها تكشف عن معلومات جديدة لا تتوافر عادة في دائرة العلاقات القريبة. وبذلك فإن لقاءً عابراً أو رسالة قصيرة لشخص لا تعرفه جيداً قد تكون المدخل الحقيقي لوظيفة المستقبل.
إلى جانب ذلك، أظهرت أبحاث أخرى أن الخريجين الأكثر مبادرة والأقدر على التواصل مع الآخرين بشكل استباقي، يحققون نتائج أفضل في مسيرتهم المهنية المبكرة. فالمبادرة تعكس الثقة بالنفس وتدعم فكرة "الكفاءة الذاتية" في البحث عن عمل، أي شعور الفرد بقدرته على إدارة هذه المرحلة بنجاح. وكلما مارس الخريج أنشطة صغيرة كالمقابلات التعريفية أو الرسائل المهنية، زادت ثقته بنفسه وارتفع مستوى مهارته في البحث والتواصل.
ولكي تكون مرحلة "الصيد" مثمرة، يحتاج الخريج إلى أنشطة عملية واضحة. من ذلك مثلاً: إجراء مقابلات قصيرة مع أشخاص عاملين في مجالات تهمه بغرض التعرف على طبيعة العمل لا بغرض طلب وظيفة مباشرة؛ إرسال رسائل قصيرة موجهة بعناية لمديرين أو فرق عمل للتعريف بنفسه وعرض المساعدة في مشروع قصير؛ حضور ملتقيات مهنية أو ندوات والحرص على بناء علاقات جديدة خلالها؛ استخدام وسائل التواصل المهني كمنصة للتفاعل مع محتوى الآخرين وتوسيع شبكة المعارف؛ القيام بأعمال تطوعية أو مهام قصيرة تساهم في بناء الخبرة العملية.
غير أن مرحلة "الصيد" ليس مجرد نشاط خارجي، بل يتطلب أيضاً إعداداً ذهنياً ونفسياً. يحتاج الخريج إلى تبني عقلية التعلم المستمر، بحيث ينظر لكل محاولة على أنها خبرة جديدة بغض النظر عن النتيجة. كما أن التعامل مع الرفض أو عدم الرد يجب أن يُفهم كجزء من العملية وليس كفشل شخصي. وكل تواصل جديد أو تجربة مختلفة تعني فرصة للتطور واكتساب ثقة إضافية.
ومثل أي رحلة، هناك أخطاء شائعة ينبغي تجنبها. من أبرزها التشتت العشوائي وإرسال طلبات عامة من دون تركيز، أو الاعتماد الكلي على إعلانات الوظائف المنشورة، أو إهمال المتابعة بعد اللقاءات الأولية. النجاح في هذه المرحلة يحتاج إلى التوازن بين الانتشار الواسع والرسائل الموجهة بعناية، وإلى المثابرة في المتابعة مع من تم التواصل معهم، إضافة إلى إدارة الجهد النفسي والابتعاد عن الإرهاق.
يمكن للخريج أن ينظم جهده في هذه المرحلة من خلال خطة بسيطة لشهر واحد. في البداية يصوغ تعريفاً قصيراً وواضحاً عن نفسه ويجهز نسختين من سيرته الذاتية، ثم يحدد قائمة بأشخاص أو جهات للتواصل معهم. بعد ذلك يخصص كل أسبوع لمجموعة أنشطة محددة: رسائل تعريفية، مقابلات قصيرة، حضور لقاءات أو ندوات، مراجعة النتائج وتعديل الأسلوب. وفي نهاية الشهر يكون قد بنى شبكة أولية، اكتسب خبرة عملية، وصار أكثر وضوحاً بشأن اتجاهاته وفرصه.
إن مرحلة "الصيد" ليست مجرد خطوة عابرة في بداية الطريق، بل هي عادة مهنية ينبغي الحفاظ عليها حتى بعد الحصول على الوظيفة الأولى. فالتواصل المستمر مع أشخاص جدد، والاستكشاف الدائم لفرص مختلفة، يفتحان آفاقاً للنمو المهني ويجعلان الخريج أكثر استعداداً للتغيير والتطور. الرسالة الأساسية هنا واضحة: لا تنتظر أن تأتيك الفرصة جاهزة، بل ابحث عنها، اصنعها، وتعلم من كل محاولة.
فالخريج الذي يتقن "فن الصيد" لا يكتفي بتقديم نفسه كطالب وظيفة، بل يظهر كعنصر فاعل وفضولي ومستعد للتعلم، وهذه بالضبط هي الصفات التي يبحث عنها أرباب العمل في الجيل الجديد من الكفاءات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد