بلير في إهاب قائمقام غزّة

mainThumb

05-10-2025 10:23 AM

لعلّ واحداً من أفضل التعليقات، على أخبار تعيين رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير قائمقاماً متصرفاً في قطاع غزّة، جاء من سيدة بريطانية: إبليس مشغول بمهامّ أخرى، فلم يجدوا أفضل من بلير ليحلّ محلّه! والأرجح أنّ هذه السيدة قصدت محو الفارق بين أفعال الأبالسة التي تتخذ صفة الشرّ والتخريب، وأفعال آدميين ممّن يزاحمونهم على أرض البشر؛ من مواقع فلسفات زائفة تتصنع «الإيمان» وتستلهم «الأديان».
وقد يُدهش المرء، أو يُمنح فرصة الضحك إلى درجة القهقهة العالية، حيال معلومة تقول إنّ بلير، في الاستعداد لمنصبه الجديد في قطاع غزّة وسائر فلسطين المحتلة، أعاد اعتناق نظرية صموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات والأديان. ومتى؟ بعد أن شبعت تلك الهرطقة احتضاراً وتفنيداً، ودُحرت مراراً على أرض الواقع. كأنّ بلير يدخل إلى أسواق التنظير القديمة، هذه وسواها، على هيئة زائر مأخوذ بما يكتشف من عجائب؛ أو كأنّ تمثيل اكتشاف الجديد هو التكتيك الأصلح لاستغفال العقول، و… استدراج التمويل، قبلئذ وبعدئذ!
ليس أقلّ طرافة أنّ راعية هذا التطوّر هي «مؤسسة توني بلير للإيمان»، التي أسسها صاحبها سنة 2008، في نيويورك، ولها فروع وشراكات وتعاقدات ومشاريع في عشرات البلدان، وقد جمعت تبرعات بعشرات الملايين، ورواتب كبار مسؤوليها تُحتسب بستة أرقام. وإذْ تعلن المؤسسة أنّ فلسفتها المركزية هي التقريب بين الأديان التوحيدية الثلاثة، فضلاً عن البوذية والهندوسية والسيخية؛ فإنّ بلير نفسه لا يعود إلى استلهام هنتنغتون إلا لكي يشدّد على اصطراع الأديان والمذاهب، وأنّ «الخلاف الديني، وليس الايديولوجيا، هو محرّك المعارك الملحمية في هذا القرن»، كما يقول عنوان إحدى مقالاته.
قبل ذلك، ضرب بلير سوريا مثالاً على تصارع الأقليات الدينية، فقط ـ وليس، البتة، صراع الشعب ضدّ نظام استبداد وفساد، متعدد الطوائف، فاشيّ البنية، وحشيّ الأدوات، همجي الأجهزة، بربريّ الأنصار… ـ «الديمقراطية ليست سبيلاً في التصويت. بل هي سبيل في التفكير». نحن، بذلك، شعوب لن تتخذ معاركنا صفة الصراع من أجل أنظمة سياسية أفضل، كالديمقراطية مثلاً؛ بل سيكون جوهر الصراع هو «الفارق الثقافي والديني»، وحده وحصرياً.
وكانت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية قد قدّرت أتعاب بلير بمليونَيْ جنيه سنوياً من مصرف بريطاني كبير، ونصف مليون من شركة خدمات مالية سويسرية، وأجور تتراوح بين 50 و170 ألف جنيه لقاء محاضرات متفرقة، إلى جانب أرباح مؤسسة «بلير وشركاه» للاستشارات عبر البحار؛ وعلى نحو تقريبي، بلغت حصيلة ما جناه بعد أن ترك المنصب، سنة 2007، قرابة 15 مليون جنيه إسترليني.
كلّ هذا حين كان على أعتاب المثول أمام «لجنة شيلكوت» البرلمانية البريطانية، التي تولت التحقيق في خلفيات التحاق بريطانيا بالولايات المتحدة أثناء غزو العراق واحتلاله، وسط إصرار بلير على أنه كان سيشارك واشنطن في الإطاحة بنظام صدّام حسين حتى دون التأكد من وجود أسلحة الدمار الشامل. أكثر من هذا، بلغ به الصلف حدّ التصريح، علانية، بأنّ عدم العثور على تلك الأسلحة كان تفصيلاً «فنّياً» محضاً؛ وأمّا «الصورة الأهمّ» في المشروع بأسره، أي الغزو والاحتلال وقلب النظام، فإنها كانت ثقته القصوى بصواب قراراته، ومشروعيتها وأخلاقيتها.
بعض أسباب حماس ترامب لإسناد المهمة إلى بلير ليست بعيدة عن خدمات الأخير للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبينها تغطيته على فضائح بيل كلنتون الجنسية؛ الأمر الذي يلقى غبطة خاصة في نفس ترامب. وفي انتظار تولّيه مهامّ موقعه الجديد، الأرجح أنّ السيدة البريطانية التي شبهته بالأبالسة لن تتأخر في ملاحظة وظائفه الأخرى الأسبق على قائمقامية قطاع غزّة؛ كالنيابة عن نتنياهو في إدارة صنوف أخرى من حرب الإبادة، ثمّ اكتناز الملايين على مبدأ المنشار… جيئة وذهاباً!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد