حماس والقرار الأكثر صعوبة

mainThumb

05-10-2025 10:24 AM

النظام العربي الرسمي الذي تشكلت ملامحه العامة بعد الحرب العالمية الثانية هو نظام عليل منذ نحو ستين عاماً؛ بل أنه على الأغلب كان عليلاً منذ البداية؛ ولكن الشعارات الكبرى الخاصة بـ«الوحدة ومقارعة الاستعمار بكل أشكاله ومكافحة الرجعية المحلية» وفق الماكينة الإعلامية للأنظمة العسكرية الجمهورية، الأكثر تأزماً، كانت تغطي على هشاشة هذا النظام وعجزه البنيوي الخلقي غير القابل للعلاج؛ لا سيما إذا ما ظلت المقاربات الحالية للمشكلات المزمنة التي تعاني منها معظم الأنظمة المعنية على حالها.
وحدها دول الخليج تمتلك من المقومات والمؤهلات والقدرات التي مكنتها حتى الآن من المحافظة على كياناتها، وذلك سواء على مستوى كل دولة أم على مستوى منظمة مجلس التعاون الخليجي. وهي اليوم تبذل جهوداً في مختلف الاتجاهات في سبيل تقديم العون ضمن حدود الإمكان للدول المأزومة؛ ولكن المطلوب لمساعدة هذه الأخيرة يتجاوز حدود قدرات الدول الخليجية نفسها التي تواجه من جانبها تحديات إقليمية كبرى؛ وتتحسّب في الوقت ذاته لما ستؤول إليه الأمور على المستوى الدولي بفعل الصراع المحموم بين القوى الكبرى المؤثرة بشأن الاقتصاد والتكنولوجيا المستقبلية ومناطق النفوذ والتسلح وغير ذلك.
غالبية الدول العربية هي في حال فشل سريري واقعي لم يعلن رسمياً بعد. هذا ما نشاهده بوضوح في أمثلة ليبيا وتونس والسودان واليمن وسوريا ولبنان. أما الدول الأخرى فهي تعاني من جانبها من أزمات مستعصية على صعيد بنية الحكم وآلياته؛ وهي أزمات أدّت، وتؤدي، إلى تبديد الموارد الطبيعية والبشرية؛ وتركت، وتترك، آثاراً سيئة بالغة القسوة على الواقع المعيشي للناس، وتهدّد مستقبل الجيل الشاب والأجيال المقبلة. وليس في استطاعة الدول الخليجية أن تلبي الاحتياجات الهائلة لشعوب الدول المشار إليها؛ خاصة وأن أسباب الخراب الشمولي (الصراعات التناحرية على السلطة والثروة في مقدمتها) ما زالت قائمة مستمرة، بل تتفاعل وتتفاقم، وغدت المشكلات بعد التدخلات الإقليمية والدولية مستحيلة الحل تقريباً.
ومصيبة المصائب أن السلطات المتعاقبة على حكم الدول المعنية قد قضت باستبدادها المتوحش على إمكانيات ظهور البديل الذي كان يمكن للناس أن يتفاءلوا به، ويعوّلوا عليه في هذه الدولة أو تلك. فقد أعدمت هذه الأنظمة الحياة الحزبية، ورسخت ببطش أجهزة مخابراتها وديماغوجية إعلامها في إذهان الناس بأن المعارضة تتماهى مع الخيانة والارتباط بالأجنبي، هذا في حين أن غالبية الأنظمة المعنية كانت في واقع الحال حصيلة صفقات مع الأجنبي ملخصها: الحكم المطلق في الداخل مقابل شروط الخارج المتحكّم.
ولعل ما ينشر اليوم من تسجيلات محاضر جلسات الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر مع بعض القيادات العربية تلقي الضوء على جانب من المحنة التي عاشتها، وتعيشها، شعوب دول منطقتنا في ظل الأنظمة الشعاراتية التي أوهمت الشعوب باستعدادات استراتيجية، وبشّرت بانتصارات أسطورية سرعان ما تبين بأنها لم تكن سوى هزائم كارثية، وكان كل ذلك ضمن نطاق حملات التضليل لشرعنة ما كان يستحيل أصلاً على أي شكل من أشكال الشرعنة. فالرجل يعترف في مجالسه الخاصة بعجزه، ويعلن عن استعداده للقبول بأي حلّ يخص مصر وحدها، هذا في حين أن مقتضيات الاستمرار بالحكم ألزمته برفع اللاءات الثلاث في الخرطوم عام 1967.
محاضر جلسات عبدالناصر مضى على تسجيلها أكثر من نصف قرن. وهناك الكثير من المحاضر السرية التي تخص قادة دولة المنطقة ستظل على الأغلب سرية وإلى الأبد ربما، وهي محاضر تؤكد أن الأمور في زمن الثنائية القطبية، وتصاعد المدّ الثوري القومي الاشتراكي، لم تكن على ما يرام في أي يوم من الأيام بالنسبة إلى شعوب منطقتنا؛ فكيف ستكون الأمور الآن في زمن استفحال الفساد، وتوحّش الاستبداد، وتحوّل الأيديولوجيات الدينية والدنيوية إلى أدوات للتجييش والتزييف والهيمنة والتحكّم على المستويات المحلية والإقليمية والدولية؛ وتفاعل كل ذلك مع نزوع أصحاب المليارات نحو الانخراط في العمل السياسي بقوة أموالهم التي تمكنهم من شراء الذمم، والتشبيك مع ميسّري الصفقات المشبوهة.
واليوم، وبعد كل الانكسارات والهزائم والسياسات الشعبوية في منطقتنا، نلاحظ أن الأولوية لكل سلطة من السلطات الحاكمة في الدول المأزومة أو تلك التي هي في طريقها إلى ذلك باتت كيفية المحافظة على السلطة بغض النظر عن الأدوات والسياسات، ومهما كلف ذلك من تنازلات أو تنكر للالتزامات البدهية.
وما يؤرق هذه السلطات أكثر من غيره اليوم هي الحرب الإسرائيلية على غزة المستمرة منذ عامين، وهي حرب أعلنتها حكومة نتنياهو تحت شعار القضاء على حماس، وذلك انتقاماً من عمليتها التي كانت قبل عامين؛ وهي العملية التي لم تأخذ الواقع الفلسطيني الداخلي المتهالك، والوضع العربي البائس بعين الاعتبار؛ كما تجاهلت مؤشرات واتجاهات الوضع الإقليمي والدولي في أجواء الصراعات المحمومة بين مختلف الأطراف.
لقد تحوّلت حرب نتنياهو على غزة إلى انتقام أعمى يطال البشر والحجر، انتقام وحقد لا يفرقان بين الأطفال والنساء والشيوخ والمقاتلين. واليوم بعد مرور عامين على اندلاع هذه الحرب، وبعد كل الجرائم غير المسبوقة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، وتصاعد حملات احتجاجات الشعوب في مختلف أنحاء العالم على الجرائم التي ترتكب في غزة، والتحول اللافت الإيجابي في المواقف الأوروبية خاصة، والدولية بصورة عامة، لصالح القضية الفلسطينية؛ والاعترافات المتزايدة بالدولة الفلسطينية بفضل المبادرة السعودية الفرنسية، والتحرك العربي الإسلامي، وما شكّل ذلك كله من ضغط على صانع القرار الأمريكي والرئيس دونالد ترامب تحديداً، هناك خطة أمريكية موضوعة على الطاولة أعلنت إسرائيل التزامها بها، والكل اليوم في انتظار قيادة حماس لبيان موقفها.
ما هو مهم بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، بموجب هذه الخطة يتمثل في أمرين: الأول، إطلاق سراح كافة الرهائن الأحياء والأموات دفعة واحدة مقابل إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين الفلسطينيين المحكومين بالمؤبد. أما الثاني فهو نسف فكرة حل الدولتين من الجذور. أما النقطة الأهم بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني ولسائر المناصرين لحقوق الفلسطينيين والمتعاطفين مع ضحايا الكارثة الإنسانية في غزة فهي تتجسّد في ضرورة إيقاف الحرب، وفتح المعابر الإنسانية لتزويد الأطفال والنساء والشيوخ الغزيين بالماء والطعام والدواء والوقود. أما سائر النقاط الأخرى التي تضمنتها ما يعرف اليوم بخطة ترامب المكونة من 20 بنداً فهي حمّالة أوجه، ستكون أرضية للكثير من التأويلات والتفسيرات الخلافية التي تسمح بالتنصّل وفرض إرادة الأقوى.
أما مسألة الإدارة الدولية للقطاع، والترتيبات الأمنية والإدارية الخاصة بها، فمن الواضح أنها تسير وفق الشروط الإسرائيلية المعلنة التي تتمركز حول الرغبة الإسرائيلية في إقصاء حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية عن مستقبل إدارة غزة، وهو الأمر الذي يُستشف منه بأنه محاولة إسرائيلية للرد على التحوّل اللافت في الموقف الأوروبي من جهة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والضغط بقصد الوصول إلى حل الدولتين. فحكومة نتنياهو أعلنت، وتعلن، بمناسبة ومن دون مناسبة، بأنها ستقضي على فكرة حل الدولتين عبر إلغاء مقوماتها الواقعية على الأرض. ودعت علانية وعملت من أجل ذلك بكل وحشية، إرغام الغزيين على الرحيل؛ وتطويق ما تبقى من الفسحة الفلسطينية في الضفة بالمزيد من المراكز والتدابير الاستيطانية. وما يخشى منه اليوم هو أن تكون السلطة الجديدة أو الإدارة المقبلة التي ستكون في غزة، بموجب خطة ترامب، تثبيتاً فعلياً باعتراف دولي لشقاق فلسطيني مفتوح، شقاق تصبح معه فكرة حل الدولتين مجرد أمنية حالمة، تتغنى بما هو منشود من دون التمعن في ما هو موجود.
الدول العربية والإسلامية الفاعلة وافقت على خطة ترامب. ورغم الحديث عن وجود ملاحظات ومقترحات ودعوات إلى إجراء تعديلات، إلا أن الموقف الرسمي أصدرته الدول التي اجتمعت مع ترامب في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. والآن الجميع في انتظار جواب حماس؛ وهذه الأخيرة في موقف لا تُحسد عليه، بل تعيش ربما أسوأ أزمة في تاريخها.
هل سيتمكن العقلاء ضمن حماس والفصائل المتحالفة معها من إدارة الخسارة، والعمل من أجل التحول إلى تيار أو حزب سياسي يعمل مع الفصائل الفلسطينية الأخرى وبالتنسيق والتعاون مع الدول العربية والإسلامية الداعمة للشعب الفلسطيني، والساعية لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة بغية وضع حد نهائي لمحنة الشعب الفلسطيني، وتثبيت أسس السلام العادل، والبناء على تعاطف شعوب ودول العالم مع الحق الفلسطيني خاصة في أوروبا؟
إنذار ترامب لحركة حماس يذكّر السوريين بإنذار غورو الذي وجهه إلى حكومة الملك فيصل قبيل حملته على دمشق عام 1920. هذا مع فارق أساسي، وهو أن غورو لم يعلن بأنه سيدمر دمشق، ويطرد السوريين من بلادهم. في حين أن ترامب يهدد بإطلاق يد حكومة نتنياهو لتفعل ما تريد إذا ما رفضت حماس الإنذار.
ولكن حماس وغيرها من الفصائل ليست سوى جزئية في التاريخ الفلسطيني الطويل وفي اللوحة الفلسطينية الأشمل. وما تعرض، ويتعرض، له الغزيون منذ نحو عامين هو الجحيم بعينه؛ ومن واجب الجميع وفي مقدمتهم حماس، العمل الجاد بهدف وضع حد للكارثة الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية. ولكن هل هذا ممكن في أجواء الخلل البنيوي في المعادلات والموازين والقيم في المجالين الإقليمي والدولي؟ هذا هو السؤال الأصعب الملح الذي ينتظر الجواب.
*كاتب وأكاديمي سوري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد