التلاعب بالمصطلحات

mainThumb

13-10-2025 04:02 PM

حين تصبح اللغة أداة السردية الناعمة

في عالم تسخر فيه كل الوسائل لخدمة مصالح السياسة ، لم تعد الحرب تخاض بالسلاح وحده، بل أصبحت حربا بالكلمات والمصطلحات والسرديات التي من شأنها أن تشكل وعي الشعوب، وتعزز مصالح الأطراف، وتلمع صورة الأنا مقابل شيطنة العدو.
يقول عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي: " اللغة سلاح السياسيين، ولكنها أيضا سلاح في كثير من الشؤون البشرية"، هكذا تتلازم اللغة والإنسان في جميع مناحي تطورهما الدلالي والمجتمعي، لتغدو سلاح التأثير المشهر في وجه الفرد والجماعة، لاسيما في سياق تطبعه الصراعات والنزاعات، فتغدو الكلمة حمالة أوجه ثقافية وسياسية تستخدم بشكل استراتيجي كقوة ناعمة توجيها للرأي والموقف، بل وحتى الشعور.
اللغة وتخدير الوعي الجماعي
تهدف القوة الناعمة إلى بناء صورة تغير زاوية النظر للقضية، غير أنها عملية تركز على التلاعب النفسي بالجماعة في الدرجة الأولى تحقيقا لتأثير أوسع، فتلقي ببعض المصطلحات شيئا فشيئا ليستقبلها وعيها ، لكن مربط الفرس يكمن في ترسيخ هذه المصطلحات، ما يجعل المتلاعب يعتمد على نمط تكراري تتسلل معه إلى اللاوعي الفردي فالجماعي لتصبح مستساغة. فتتكرر مثلا "عملية السلام" و "حل الدولتين" بشكل تترسخ معه كصورة مقبولة لحل الصراع في ذاكرة الجماعة، وتجعل "إسرائيل" كيانا طبيعيا يمكن التطبيع معه اقتصاديا وسياسيا ومن ثم ثقافيا واجتماعيا، ينتج عن كل ذلك تحيز لهذا الموقف دون الحاجة لتفكيكه أو نقده.
من.. إلى...: صور التلاعب
من الاستيطان إلى التوسع العمراني، و من السجن المفتوح إلى عملية سلام و منطقة مستقلة، و من جدار الفصل العنصري إلى الجدار الأمني، هكذا تبدل إسرائيل-إحدى أبرز الجهات الفاعلة في صناعة الدعاية و التضليل الإعلامي- الدلالات اللغوية لجملة من العمليات التي خاضتها و ما زالت تخوضها في الضفة الغربية و قطاع غزة و تحرفها، لتبدو كرؤية للحياة الطبيعية و الصحية التي تنهجها، فتقدم الاحتلال على أنه ظاهرة مؤقتة ستحل مع قدوم السلام، هذا المصطلح الذي طالما تبججت به في خطابها لإضفاء طابع الشرعية على مختلف تدخلاتها وعملياتها التي تخوضها إلى أجل غير مسمى، فتخترق بذلك الدعاية الإسرائيلية الفلسطيني المتواجد في فوهة البندقية، ثم العربي و الغربي.
الإعلام آلة حرب السرديات
يعد الاعلام بمختلف وسائله بطل الجبهة في معركة السرديات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فإن الرواية الإسرائيلية و الغربية تصبح الصادقة دون نقاش، فأساليب التحييد اللغوي فضلا عن التخفيف و التلميع الإعلاميين و الشيطنة من شأنها أن تخدم الخطاب المواكب للصراع، و أن تبرمج وعي المتلقي أيا كانت قناعاته و مواقفه من القضية دون إكراه ، فتنقل هذه الوسائل-إلى جانب بعض مواقع التواصل الاجتماعي- الواقع المصور لا الواقع الحقيقي في العديد من الأحيان، إذ يصير فعل المقاومة-حسبها- إرهابا، و قتل المدنيين دفاعا عن النفس، و تسليم سلاح المقاومة انخراطا في عملية السلام.
معركة الوعي: انتصار واسترداد
في مواجهة هذه التلاعبات و التضليلات الإعلامية و اللغوية، يجدر بنا أن نتبنى دفاعا و هجوما مضادا، فنقاوم هذا المد بوعي مضاد من خلال تبني المنهج النقدي الذي يطرح سؤال لماذا؟ وكيف؟ في قراءته للأحداث، ويستوعب القضية من مختلف زواياها، فحرب اليوم لا تخاض في ساحة المعركة فحسب. كما أن الوعي بالمصطلح اليوم و مدى تحريف دلالته هو أول الخطوات للمقاومة، فضلا عن دور الترجمة و التدوين في ترسيخ المصطلح الدقيق، و نشر السردية الحقيقية بما تحمله من أبعاد تاريخية تراكمية.
وتبقى معركة الوعي مسؤولية فردية وجماعية تجعلنا فاعلين في الميدان، مقاومين لمختلف التصدعات، لا مجرد لعبة في يد المتلاعبين. فإما أن نكون بما تحمله الكلمة من معنى أو لا نكون!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد