فتش عن الصين

فتش عن الصين

05-12-2025 01:11 AM

في تحول جيوسياسي ملفت، غيرت إدارة الرئيس دونالد ترامب استراتيجيتها تجاه أمريكا اللاتينية بشكل غير مسبوق، متجاوزة حدود الدبلوماسية التقليدية إلى التلويح المباشر بالقوة العسكرية.
لا يقتصر هذا التصعيد على التهديد شبه اليومي من الرئيس عبر الشاشات بغزو فنزويلا لإسقاط نظام الرئيس نيكولاس مادورو، بل يمتد ليشمل عداءً علنياً مع قوى إقليمية أخرى مثل كولومبيا، وخلافاً تجارياً معقداً مع البرازيل والمكسيك، وتدخلاً يكاد يكون سافراً في انتخابات هندوراس، ودعماً غير مسبوق للنظام الحليف في الأرجنتين. هذا التحول ليس مجرد رد فعل لحظية، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى إعادة إحياء «عقيدة مونرو» التي يعود تاريخها لقرنين من الزمن، ولكن بصبغة تناسب صراعات القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين.

استعادة الحديقة الخلفية

بدأت ملامح هذا التحول تتضح مع الحشود العسكرية الأمريكية الضخمة في منطقة البحر الكاريبي وشرق المحيط الهادئ. وبينما تُسوَّق هذه التحركات رسمياً تحت ذريعة «مكافحة تهريب المخدرات» واستهداف قوارب المهربين، فإن الغاية الحقيقية تبدو أعمق بكثير وتكاد لا تُخفى على أحد.
وقد كشف وزير الدفاع الأمريكي، بيتر هيجسيث، عن نوايا صريحة للإدارة الحالية بقوله: «مع الرئيس ترامب، سنستعيد حديقتنا الخلفية»، فيما قُرأ إحياء ل»عقيدة مونرو» – عام 1823-، التي اعتبرت أمريكا اللاتينية منطقة نفوذ حصرية للولايات المتحدة، محرمة على القوى الأوروبية آنذاك. اليوم، تعيد واشنطن صياغة هذه العقيدة لا لمواجهة أوروبا، بل لمواجهة خصم أشرس وأقدر وأكثر تمدداً: الصين.

تاريخ من التدخلات

لا بد لفهم هذا التحول من النظر إلى السياق التاريخي، إذ بين عامي 1898 و1994، تدخلت الولايات المتحدة علناً في شؤون دول أمريكا اللاتينية 41 مرة. كانت النتائج غالباً دموية كما في غواتيمالا (1954): حيث أدى الانقلاب المدعوم أمريكياً والحرب الأهلية التي تلته إلى مقتل ما يقرب من 200,000 شخص.، وفي تشيلي (1973) حينما أسفر الانقلاب الذي دبرته المخابرات الأمريكية ضد الرئيس سلفادور الليندي عن مقتل أكثر من 3,000 شخص وتشريد مئات الآلاف.
الإدارة الحالية وكأنها تستعيد هذا «الإرث» كأداة لفرض الإرادة، ملوحة بأن الولاء لواشنطن يُكافأ، بينما التحدي له ثمن باهظ.

الصين: المحرك الخفي وراء
العدوانية الأمريكية

السبب الجوهري وراء هذا التصعيد يكمن، في تراجع النفوذ الأمريكي النسبي عالمياً بعد صعود الصين كقوة عظمى منافسة. لم تعد واشنطن ترى في أمريكا اللاتينية مجرد جيران، بل ساحة معركة رئيسية للسيطرة على الموارد الاستراتيجية إذ من الجليّ أن الهيمنة المستقبلية تعتمد على «المعادن النادرة الضرورية لإنتاج الطاقة والتكنولوجيا المتقدمة.
لقد أصبحت الأرقام مخيفة لصناع القرار في واشنطن، حيث رسخت الصين أقدامها كشريك لا يمكن الاستغناء عنه في جوار واشنطن الجنوبي، وأصبحت الشريك التجاري الأول لأغلب دول أمريكا الجنوبية (تمتلك الشركات الصينية 57% من قطاع توزيع الكهرباء في تشيلي مثلاً.، فيما تجاوز حجم تجارتها مع أمريكا الجنوبية حوالي 500 مليار دولار في عام 2024 واستثمرت منذ عام 2018 آكثر من 10 مليون دولار في استخراج الليثيوم من المنطقة.

فنزويلا: هدف استراتيجي

تمثل فنزويلا نقطة الارتكاز في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لعدة أسباب، أهمها امتلاكها أكبر احتياطيات النفط في العالم على الإطلاق سوى الغاز والذهب والمعادن النادرة الأخرى. لم يعد الهدف هو النفط في حد ذاته للاستهلاك الأمريكي، بل منع الخصوم (الصين وروسيا) من السيطرة عليه.
فالصين تحديداً قامت بتركيب أول منصة نفطية في فنزويلا خلال أيلول / سبتمبر الماضي، ووصلت قيمة قروضها لكاراكاس ما يقارب 60 مليار دولار أمريكي فيما يعد الجيش الفنزويلي أكبر مشترٍ للأسلحة الصينية في المنطقة.
ورغم أن نظام مادورو يواجه انتقادات داخلية حادة بسبب الفساد وتدهور الأوضاع الاقتصادية للفقراء والطبقة العاملة، فإن الولايات المتحدة تستغل هذا الاستياء ليس لدعم الديمقراطية أو مكافحة تهريب المخدرات كما تزعم، بل لفرض تغيير جيوسياسي بالقوة، وهو ما فشلت فيه سابقاً خلال محاولة الانقلاب عام 2002. وقد صعدت إدارة ترامب من حدة تهديداتها تجاه مادورو شخصياً، واضعة مكافأة قدرها 50 مليون دولار على رأسه بهدف استبداله بنظام موالٍ لواشنطن يضمن تدفق الموارد للشركات الأمريكية بدلاً من الصينية.
تمتلك واشنطن أوراق ضغط هائلة على بعض دول الإقليم. المكسيك تُرسل 80 بالمائة من صادراتها إلى الولايات المتحدة.، ولذلك فإن التهديد بفرض رسوم جمركية بنسبة200% على السيارات المكسيكية أو 60% على البضائع القادمة عبر الموانئ الصينية في بيرو يمثل ورقة ضغط فعالة هنا.
في المقابل، يبدو المشهد في أجزاء أخرى من القارة مختلفاً تماماً، حيث تتضاءل قدرة واشنطن على الإكراه بسبب البديل الصيني الجاهز.
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو يمثل تحدياً آخر. فبينما تهدد واشنطن بقطع المساعدات، تتجه بوغوتا للانضمام إلى مبادرة «الحزام والطريق» الصينية في عام 2025، وربما الالتحاق ببنك بريكس، فيما تظهر مناهضة للتحشيد العسكري الأمريكي ضد فنزويلا.
وفي الأرجنتين، فإن الرئيس خافيير ميلي، رغم إعجابه الشديد بترامب ووصفه للصين سابقاً بـ «القتلة»، اضطر للرضوخ للواقع الاقتصادي. وصفت إدارته الصين مؤخراً بـ «شريك تجاري مثير للاهتمام»، وتسعى لتفعيل اتفاقية مبادلة عملات لتعزيز الاحتياطي النقدي وتنشيط صفقات الغاز.
إن الضغط المفرط على هذه الدول قد يأتي بنتائج عكسية، دافعاً إياها أكثر نحو الحضن الصيني، الذي يتميز بكونه «لا أدرياً» تجاه الأنظمة؛ فالصين تتعامل بأريحية مع اليميني المتطرف (ميلي الأرجنتيني) واليساري الاشتراكي (مادورو الفنزويلي) طالما تحققت مصالحها التجارية.

المخاطر والآفاق المستقبلية

إن محاولة ترامب لإعادة تشكيل «حديقة خلفية» خاضعة بالكامل تواجه واقعاً عالمياً جديداً. الصين ليست الاتحاد السوفيتي؛ فهي تمتلك ثقلاً اقتصادياً هائلاً وليست محض قوة عسكرية.
وبينما تستخدم واشنطن «العصا» (التهديدات العسكرية، العقوبات، الرسوم الجمركية)، تقدم بكين «الجزرة» (قروض، بنية تحتية، أسواق).
الخطر الأكبر يكمن في أن تؤدي هذه السياسة العدائية إلى عزل الولايات المتحدة عن حلفائها المحتملين في الجنوب، وتسريع انضمام دول المنطقة إلى تكتلات اقتصادية بديلة. بالنسبة لشعوب المنطقة، من الطبقات العاملة والفئات المهمشة، فإن الصراع بين «الإمبريالية الأمريكية» والطموحات الصينية يضعهم بين مطرقة التدخل العسكري وسندان الاستغلال الاقتصادي، مما يشي بمرحلة مقبلة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في القارة اللاتينية قد تستمر طويلاً.

إعلامية وكاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد