من صلاة عند المرفأ… إلى معطف على الرصيف
لم يكن الأول من كانون الأول/ديسمبر تاريخاً اعتيادياً في بيروت. فالبلاد كانت تمضي أسابيعها الأخيرة تحت وطأة تهديد إسرائيلي متصاعد بتوسيع الضرب، ما أثار خشية اللبنانيين من دخول مرحلة أكثر خطورة. كل ذلك كان يحدث قبل وصول البابا لاوون الرابع عشر، وقبل أن تتجه الأنظار إلى زيارة رأت فيها فئات واسعة من اللبنانيين متنفساً نفسياً وروحياً في لحظة يسودها القلق.
وسط هذا المناخ المتوتر، بدا وصول البابا إلى بيروت حدثاً يتجاوز البروتوكولات. فالرجل جاء إلى بلد يعيش أهله على حد السكين، ينصتون يومياً إلى هدير الطائرات، ويعدون الأيام بين خبر أمني وآخر. ومع ذلك، حين وقفت قدماه على أرض المطار، شعر كثيرون أن البلاد، رغم تعبها، ما زالت قادرة على فتح نافذة صغيرة للضوء.
المرفأ: ذاكرة لا تهدأ
لم يكن مشهد البابا عند مرفأ بيروت عابراً. المكان ما زال يحمل أثر الانفجار الذي غيّر وجه المدينة، وما زال يقف كجرح تتعايش معه البلاد، رغم كل محاولات إخفائه. هناك عند النصب الأحمر، الذي يشبه قلباً مضغوطاً بيد الزمن، كان الصمت ثقيلاً.
وقف البابا يصلي.. ثم أضاء شمعة
فقد كان الحزن الشديد على الضحايا ووجع أهاليهم الذي لم يهدأ والقلق من التهديدات الإسرائيلية المتكررة يكاد يسقط السماء في بحر بيروت. هل تتوسع الضربات؟ هل يعاد فتح أبواب الحرب؟ هل يستيقظ اللبنانيون على فاجعة جديدة؟
ومع ذلك، بدا المشهد عند المرفأ شاهداً على التناقض اللبناني الدائم: وجع لا يلغيه حب للحياة ما زال ينبض تحت الرماد.
من المرفأ إلى بكركي امتد المشهد بين رمزية الألم ورمزية الأمل. في الساحة المارونية، تجمّع آلاف الشباب تحت سماء باردة وقلوب مشتعلة بالمشاعر. بدا المشهد كأنه إعلان جماعي بأن البلاد، رغم هشاشتها، ما زالت قادرة على أن تحلم. هناك وقف البابا لاوون الرابع عشر مخاطباً الشباب مباشرة، وبدت كلماته جزءاً من تشخيص صريح لواقعهم: «ربما تشعرون بالحزن لأنكم ورثتم عالماً تمزّقه الحروب وتشوهه المظالم.»
كانت الجملة أشبه بمرآة. فمن الصعب على اللبناني الشاب تحديداً، أن يفصل حياته اليومية عن هذا الإرث القاسي: حرب ماضية، أزمات متلاحقة، وانهيار اقتصادي كامل.
ومع ذلك، تابع البابا: «لكن هناك أمل… وهذا الأمل في داخلكم.»
في تلك اللحظة تعالت الأنفاس في الساحة، وكأن اللبنانيين وجدوا في العبارة مساحة قصيرة للراحة، ولو كان الواقع يضغط بثقله عليهم.
لم يكن المشهد في حاجة إلى كثير من الكلمات.
يكفي أن شاباً لبنانياً يدعى كريم اخترق الطوق الأمني في لحظة عفوية، راكضاً نحو البابا قبل أن يركع أمامه ويقبّل قدميه. كان ذلك فعلًا رمزياً من شاب يبحث عن معنى في بلد يحاصره الخوف من الخارج، والكبرياء من الداخل، والضياع في ما بينهما. امتدت يد البابا فوق رأس الشاب، في لقطة ستبقى محفورة في ذاكرة الزيارة.
لم تحمل زيارة البابا حلولًا سياسية أو خارطة طريق، ولم تخفّف من وطأة التطورات العسكرية المحتملة. لكنها قدمت للبنانيين، ولو ليوم واحد، فرصة لرؤية أنفسهم خارج إطار الخوف.
لبنان ما زال يقف في منطقة رمادية بين تهديدات لا تهدأ ورغبة شعبه في حياة طبيعية. زيارة البابا لم تغيّر الصورة العامة، لكنها أضاءت جزءاً منها.. أظهرت أن البلاد، رغم خوفها، لا تزال تملك ما يكفي من الضوء كي لا تسقط في الظلال.
ربما لا يعرف أحد ماذا ينتظر لبنان في الأسابيع المقبلة، لكن المؤكد أن هذه الأرض التي حملت الحروب والانفجارات والخيبات، لا تزال قادرة على أن تجمع الناس حول لحظة إنسانية واحدة. لحظة يقول فيها اللبناني، وهو يراقب خطراً يقترب من حدوده، إن الحياة تستحق أن تعاش بعيدا عن الخوف.
معطفٌ على الرصيف
في ليل فلسطيني بارد، ليس فيه سوى ضوء ضعيف يتدلى من عمود كهرباء متعب، توقّفت سيارة عسكرية إسرائيلية عند حافة الطريق. باب يفتح بعنف، صراخ وأوامر، ويد تجر شاباً من كتفه كأنه ليس ابناً لأحد.
كان الليل عادياً في فلسطين… والعادي هنا فاجعة أخرى. من زاوية الشارع، خرجت أم، لم تحمل سلاحاً، لم تهتف، لم تحتج. كل ما كانت تحمله كان معطفاً صغيراً بين يديها، معطفاً تريد أن تلبسه لولدها قبل أن يبتلعه الظلام العسكري. جاءت بخطوات مضطربة، كأن الأرض صارت فجأة أعلى من قدميها. اقتربت من الجنود، ورفعت المعطف محاولة أن تمنحه لابن يرتجف من البرد، ومن الخوف، ومن المجهول.
لكن جندياً مدججاً بالسلاح تقدم نحوها. رفع يده بصرامة وأشار إليها بالعودة. كانت الإشارة قصيرة، حادة… تراجعت الأم خطوة.
ظلّت يدها ممدودة في الهواء. وفي اللحظة نفسها، دفع الجنود بالابن إلى داخل السيارة العسكرية، بلا رحمة، بلا التفاتة أخيرة، بلا نافذة تطل على وداع. كانت الأم واقفة وحدها. الطريق صار أطول من أي وقت سابق، والليل أكثر ضيقاً.
تقدّمت خطوة أخرى محاولة أن تضع المعطف على كتفيه، لكن الجندي صرخ: «ابتعدي!»
صرخة واحدة أسقطت الهواء من حولها. فهمت الأم عندها أن لا شيء في يدها يمكن أن يصل إلى ابنها، لا المعطف، ولا الدعاء، ولا الدموع التي كانت تجف قبل أن تغادر عينها.
في ذلك المشهد المختصر، كان التاريخ كله يقف على الرصيف.
فلسطين تقف دائمًا هكذا. أم تمد يدها، وجندي يمنعها، وابن يسحب من بين أصابعها. يد تمسك المعطف بحنان، ويد أخرى تمسك البندقية بقسوة. وبين اليدين، يضيع طفل آخر، شاب آخر، حلم آخر.
بعد أن انطلقت السيارة العسكرية، بقيت الأم واقفة، المعطف بين يديها. رفعت رأسها نحو الطريق الفارغ، نحو العدم، نحو المكان الذي اختفى فيه ابنها بلا أثر. لكن لا شيء يمكنه أن يطفئ النور الذي يسكن عين أم فلسطينية.
الجنود قد يمنعونها من الاقتراب. قد يمنعونها من العناق.. قد يمنعونها من تقديم معطف. لكنهم لا يستطيعون نزع قلبها من مكانه، ولا يستطيعون قتل هذا الإصرار العجيب الذي يجعلها تعود في اليوم التالي، تقف في المكان نفسه، وتنتظر. في فلسطين، الأم لا تستسلم. لا تنسى. في تلك الليلة، بقي المعطف شاهداً.
ظل بين يدي الأم، يحتفظ برائحته، وبحرارته، وبحكاية حب سيبقى التاريخ يرويها.
كاتبة لبنانيّة
السوداني يوجه بالتحقيق في خطأ إدراج كيانات بقائمة الإرهاب
رئيس هيئة الأركان المشتركة يستقبل السفير القطري
الجامعة الهاشمية تبحث تعزيز المحتوى العربي مع ويكيميديا
اختتام مشروع تعزيز البيئة التعليمية الإيجابية
العيسوي يرعى إطلاق المرحلة الثانية للمبادرة الملكية التعاونية
العراق يتراجع عن إدراج الحوثيين وحزب الله على قوائم الإرهاب
افتتاح مختبر جوتك في العقبة لتعزيز البنية التحتية للطاقة
جيش السودان .. لا جيش «الكيزان»
مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا
من صلاة عند المرفأ… إلى معطف على الرصيف
المنفى وعصر الصّفاقة الماهرة وتعلّم لغة العنكبوت
الصناعة ودائرة الجمارك تفوزان بجائزتين للتميز الحكومي العربي
تخصيص 10% من أراضي مدينة عمرة للقوات المسلحة الأردنية
بيت جن… مشهد جديد يكشف طبيعة الكيان المجرم
مدرسة الروابي للبنات هل خدش الحياء أم لمس الجرح
وزارة الخارجية تعلن عن وظائف شاغرة
نجل رئيس سامسونغ يتخلى عن الجنسية الأميركية للخدمة العسكرية
فنان مصري ينفجر غضباً ويهدد بالاعتزال
العقبة للتكنولوجيا تستضيف وفد هيئة الاعتماد وضمان الجودة خلال زيارة ميدانية
مجلس الوزراء يوافق على تسوية غرامات المبتعثين وفق شروط
محمد منير يطرح الأغنية الرسمية لكأس العرب 2025
الأمن السيبراني يتحول لقطاع اقتصادي استراتيجي بالخليج
الحكومة تعتمد نظاما جديدا للمحكمة الدستورية 2025
الحكومة تقر نظام وحدة حماية البيانات الشخصية لعام 2025

