الشرع وتلفيق الـ«نيو ـ جهادية»: المنبر إسرائيلي والحجاب مصري

الشرع وتلفيق الـ«نيو ـ جهادية»: المنبر إسرائيلي والحجاب مصري

05-12-2025 01:09 AM

قد لا تكون داليا زيادة، الباحثة المصرية المقيمة في واشنطن، معروفة على نطاق واسع في العالم العربي، لكنها في بلدها مصر أشهر من نار على علم؛ لأنّ توصيفاتها، المشاعة عن إنصاف أو إجحاف، يمكن أن تبدأ من «جاسوسة إسرائيلية»، لأنها ببساطة تعتبر ردود دولة الاحتلال الإسرائيلي على 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 مشروعة تماماً، كما تناصر العدوان الإسرائيلي ضد إيران؛ وقد تمرّ بأنها عملت مع سعد الدين إبراهيم وأدارت «مركز ابن خلدون» قبل أن تغدر به، وبالحركة الوطنية المصرية عموماً؛ وليست تنتهي عند صفة «المخبر المحلي» الشهيرة، من خلال إدارة «معهد دراسة العداء العالمي للسامية والسياسة» ISGAP في واشنطن.
طريف، إلى هذا، أنها تواصل ارتداء الحجاب حيث تقيم وتعمل في الولايات المتحدة، فتستثير لدى بعض «خبراء» الشرق الأوسط إعجاباً من طراز خاصّ، تمتزج فيه خلائط الفضول والزهو بهذه المرأة المصرية/ المسلمة/ العربية، التي تنافس العديد من الصهاينة في محبة دولة الاحتلال؛ وتمارس طرازاً من جلد الذات حول القضية الفلسطينية (لأنها ذهبت بعقول المصريين والعرب أجمعين، كما صرّحت ذات مرّة) يندر أن يصدر عن عربي، فكيف بامرأة… محجبة! وكانت الصحافية الأمريكية المخضرمة روبن رايت قد وضعت زيادة ضمن فئة «جيل الحجاب القرنفلي»، حيث النساء مؤمنات بعقيدة الإسلام، وثائرات في الآن ذاته، مطالبات بحقوقهنّ، وثابتات على مواقفهنّ النسوية.
أحدث تدويناتها على منصة X تضمنت إشادة حارّة بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تصنيف جماعة «الإخوان المسلمين» منظمة إرهابية، أوضحت خلالها أنها فرّت من تهديدات الإخوان المسلمين في مصر، لتجد هؤلاء «الأشرار» هنا أيضاً «في كل مكان من الولايات المتحدة، يستخدمون التكتيكات ذاتها» التي شاعت «خلال الانتفاضة الثانية»، ويخرجون في «الاحتجاجات ذاتها، وهم يرتدون الكوفية ذاتها، ويرفعون الأعلام ذاتها، ويحرقون العلم الأمريكي ذاته»… كذلك حرصت على طمأنة جمهورها الأمريكي بأنّ حظر «الإخوان المسلمين» ليس علامة إسلاموفوبيا، بدليل أنّ الجماعة محظورة في مصر أيضاً، وها أنها وهي المسلمة المحجبة ترحّب بالقرار.
أمّا أحدث «دراسة»، مسهبة على نحو ما، وأكثر حشداً للمزاعم والتلفيقات والأكاذيب، فقد جاءت بعنوان «الشرع في سوريا والتحوّل الأشدّ خطورة للنزعة الإسلامية السياسية»، وقد كُتبت باللغة الإنكليزية؛ ولم تختر لها زيادة منبراً للنشر سوى… «مركز القدس للأمن والشؤون الخارجية»، الإسرائيلي، اليميني المحافظ، وشديد الولاء لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو! ليس من دون أسباب جلية وراء اختيار هذا الموقع، لا تخدم توجهات «معهد دراسة العداء للسامية» الذي تعمل له زيادة فقط، بل تمتثل بصفة شبه حرفية للخطّ التحليلي الذي يعتمده المركزفي قراءة سوريا الجديدة بعد انهيار نظام «الحركة التصحيحية» وسلطة الأسدَين الأب والوريث.
المقولة، إذا صحّت التسمية بأي معنى، تسير على النحو الافتراضي التالي: الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، الذي تفضّل زيادة الاحتفاظ باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، لا ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، بل هو انتقدهم في السابق؛ ولا يمثّل تراثاً فصائلياً على غرار «داعش»، من حيث الأساليب والممارسات والخلفيات العقائدية. لكنه أسوأ، وأشدّ خطورة على المنطقة والعالم قاطبة، لأنه اليوم أبرز قيادي في تطوّر نوعي عالي التهديد ضمن تيارات الإسلام السياسي، تختار له زيادة تسمية الـ»نيو ـ جهادية». وإذْ تبلغ هذه الخلاصة القاطعة، باستخفاف تحليلي يستغفل العقول من دون الاكتراث بأيّ طراز من الحذلقة، فإنّ زيادة لا تتكلف عناء تبيان معطى واحد يتوجب أن يكون محورياً في مخططها الافتراضي: جهادية جديدة ضدّ مَن، على وجه التحديد، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً؛ ما دامت دبلوماسية الرئيس الانتقالي قد أنجزت، حتى الساعة، اختراقات انفتاح نحو محيط عربي وإقليمي ودولي واسع النطاق، لم تغبْ عنه مراكز قوى كبرى مثل قصر الإليزيه والكرملين والبيت الأبيض؟
وقد يكون صحيحاً أنّ زيادة المتحدرة من أصل مصري أشطر، لجهة التثاقف الأكاديمي واستخدام المفردات ذات العيار الثقيل، من مواطنيها أبطال الردح أمثال أحمد موسى وعمرو أديب ومصطفى بكري ومحمود بدر؛ غير أنّ افتضاح خطاب هؤلاء لن يستغرق ثواني معدودات قبل أن تتكشف مرجعياته الأمنية، المكشوفة أصلاً في ناظر سواد المصريين خصوصاً. فارق زيادة أنّ التلفيق الذي تشيعه لا يتوجه إلى أبناء مصر، أو الشرائح الأوسع في العالم العربي، وربما الإسلامي أيضاً؛ بقدر ما يلبي مباشرة ما تتطلبه جهات عليا سياسية وأمنية وأكاديمية في دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة والغرب عموماً، وما تستطيب إشاعته والترويج له من تلفيق وشيطنة وتشويه وتضليل حول سوريا الجديدة عموماً، والسلطات الانتقالية خصوصاً.
على سبيل مثال أوّل حول نمط من التثاقف لا رنين له إلا حيث تتعالى أنغام التنميطات الاستشراقية، تعرّف زيادة الـ»نيو جهادية» بأنها «إيديولوجيا جديدة هجينة تمزج بين الإسلاموية السياسية، والجهادية، والاشتراكية التسلطية»؛ وتضيف: «هي حركة تستعير ألْمَعيّة الإخوان المسلمين، وتستوعب البراغماتية التكتيكية التي دشنها حزب العدالة والتنمية في تركيا، وتحتفظ بالصرامة العنفية لدى «القاعدة» و«تنظيم الدولة الإسلامية». أكثر من هذا، تضيف زيادة: «ما يميزها هو استخدام الواقعية السياسية للمناورة على صراعات القوّة الإقليمية والدولية، وفي الآن ذاته استغلال وعد العدالة الاجتماعية الاشتراكي الأجوف غير المتحقق، للتحكم في السياسة الداخلية وتوطيد الحكم التسلطي».
ولا مفرّ من أن تلجأ زيادة إلى الكذب الصريح، بمعنى الاختلاق هذه المرّة وليس التلفيق وحده، فتجزم بأنّ الشرع «منح الجنسية السورية للجهاديين الأجانب وأدخلهم في جيشه وشرطته»، خلال مراحل سيطرته على محافظة إدلب؛ وهذا، بالطبع، ادعاء كاذب لأنّ الشرع/ الجولاني سابقاً لم يكن يملك سلطة التجنيس في إدلب، أوّلاً؛ ولأنّ أيّ قانون حول التجنيس لم يصدر بعدُ حتى الساعة، ثانياً، وسبق للرئيس الانتقالي أن علّق على هذا الملفّ خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، مطلع أيار (مايو) الماضي. ذلك لا يعني أنّ السلطات الانتقالية سوف لن تسهّل، أو تصعّب، حصول الجهاديين الأجانب على الجنسية السورية في أي موعد قريب أو بعيد، غير أن زعم زيادة يبقى كذبة صارخة.
بذلك، وطبقاً لتشخيصات زيادة، فإنّ قدرات الشرع ورجاله، في مستوى مهارات المناورة والتكتيك والمرونة و«الألمعية»، لا تخادع الشعب السوري أو قطاعاته الأوسع التي التفّت وتلتفّ حول السلطات الانتقالية لأسباب شتى ليس هنا مقام استعراضها مفصلة، فحسب؛ بل تخدع، أيضاً، أساطين التحليل والاستخبار والاستعلام لدى الأقطاب الأعظم في خرائط العالم الجيو ـ سياسية، ولدى شركات استثمار ومال وأعمال عملاقة وكونية، ليس من اليسير استغفال ملياراتها. وهكذا، فإنّ الجهات التي تنجو من شراك الشرع وتتنبه إلى أحابيله، هي زيادة نفسها صاحبة «الدراسة»؛ صحبة «مركز القدس للأمن والشؤون الخارجية»، الإسرائيلي الذي نشرها؛ وربما جامعة تافتس (الأشهر في انحيازاتها الصهيونية) التي خرّجت هذه المحجبة المصرية فريدة زمانها…
وتبفى إشارة تأكيد بأنّ وقوف هذه السطور عند «دراسة» زيادة لم يكن له من دافع آخر سوى أنّ المنبر كان إسرائيلياً، بما ينطوي عليه هذا التفصيل من دلالات شتى متقاطعة، سياسية أو فكرية أو أخلاقية؛ وأنّ الكاتبة تواصل إبراز الحجاب، بوصفه إحدى أفضل أدوات التخفّي لدى مخبرة محلية، لا تتقن أفانين التلوّن.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد