أزمة اللامعالجة في الواقع الأردني

mainThumb

17-10-2025 12:50 PM

هناك مظاهر في المشهد الأردني لا تبدو كبرى في ظاهرها، لكنها تُعبّر بعمق عن أزمة في نمط التفكير العام وعن غيابٍ في الرؤية المؤسسية الشاملة. فحين تتكرر المشكلات نفسها في التعليم والصحة والطرقات والخدمات والعدالة اليومية، دون حلولٍ جذرية، فهذا يعني أن الخلل لم يعد في التفاصيل، بل في المنهج الذي يدير التفاصيل. وتشير التقارير الرسمية إلى أن 64% من المواطنين يعانون من تراجع الخدمات الأساسية، وأن 72% من الشكاوى تتعلق بمشكلات متكررة دون حلول جذرية؛ ما يعكس خللًا بنيويًا في منهجية إدارة الشأن العام.

الأمم لا تنهار دفعة واحدة، بل عبر تراكم مظاهر الإهمال اليومي. حين تُهمل مدرسة، ويتعثر مستشفى، وتتكرر حوادث الطرق في المكان ذاته دون إصلاح، فالمشكلة ليست في الحادث بل في ثقافة اللا متابعة التي أصبحت جزءًا من بنية العمل العام. وما كان يُفترض أن يكون استثناءً أصبح عادة، حتى صار الناس يتعايشون مع الخلل كما لو كان قدرًا لا يمكن تغييره.

أما التعليم، الذي كان يومًا رسالة وطنية لبناء العقول، فقد فقد الكثير من بريقه. فخلال العقد الماضي تراجع ترتيب الجامعات الأردنية بنسبة 40% في المؤشرات العالمية، بينما انسحب 28% من الطلبة من التعليم المهني والتقني، وعزف 65% من الخريجين المتميزين عن العمل في القطاع التعليمي. لم تعد المؤسسات التعليمية حاضناتٍ للإبداع، بل مصانع للشهادات، يسعى فيها الطالب إلى النجاح لا إلى المعرفة، ويبحث عن الشهادة لا عن المهارة. والجامعة، التي يُفترض أن تقود المجتمع فكريًا، باتت أسيرة لوائح إدارية وضغوط مالية تحدّ من قدرتها على التجديد والجرأة في الإصلاح.

وما الحادثة الأخيرة التي شهدتها الجامعة الأردنية بين عددٍ من الطلبة إلا انعكاسٌ مؤلم لهذا الواقع. فهي لم تكن مجرد خلافٍ عابر بين شبّان، بل تجلٍّ واضح لتآكل منظومة القيم الجامعية، ولضعف الثقافة الحوارية التي كانت يومًا من سمات النخبة الأكاديمية. عندما يتحوّل الحرم الجامعي من فضاءٍ للفكر إلى ساحةٍ للتوتر والانفعال، فذلك يعني أن الأزمة تجاوزت حدود التعليم إلى بنية الوعي ذاته. إن ما جرى ليس مسؤولية الطلبة وحدهم، بل هو نتيجة طبيعية لتراجع دور الجامعة في غرس الانتماء الواعي، ولانشغالها بالإدارة البيروقراطية عن دورها التنويري. وحين تفشل المؤسسة الأكاديمية في بناء عقلٍ نقديٍّ متسامح، فإنها تترك المجتمع أمام جيلٍ يجيد الانفعال أكثر مما يجيد التفكير.

وفي قطاع الصحة، الذي كان مفخرة وطنية، بدأت ملامح الأزمة تتضح في تراجع التوازن بين الكفاءة والقدرة على الوصول. فـ45% من المرضى ينتظرون أكثر من ثلاث ساعات للحصول على خدمة طبية، و32% من الأطباء المتميزين غادروا البلاد خلال السنوات الخمس الماضية، فيما بلغ العجز المالي في المستشفيات الحكومية نحو 350 مليون دينار عام 2024. وهكذا يتحول الحق في العلاج إلى حظٍّ اجتماعي، لا إلى ضمان وطني متكافئ.

وفي الطرقات، تتكرر الحوادث في المواقع ذاتها لسنوات دون معالجة جذرية، وكأن الطريق يعرف ضحاياه بأسمائهم. تشير بيانات وزارة الأشغال إلى أن 70% من الحوادث تقع في 15% فقط من المواقع الخطرة، بينما تتأخر 55% من مشاريع الصيانة عن مواعيدها المقررة، في انعكاسٍ صارخ لغياب نظام المساءلة الفعّالة. حين تعجز الدولة عن إصلاح طريقٍ مميت، كيف يمكن أن تقنع مواطنيها بأنها قادرة على إصلاح الاقتصاد؟ إن التفاصيل الصغيرة، كطريق مهمل أو جسر متصدع، هي التي تكشف صدق الإرادة الكبرى، لا البيانات والتصريحات.

ولا تقل الأزمة وضوحًا في سلوك مؤسسات إنفاذ القانون. فعندما تُسجّل الشرطة النوع نفسه من المخالفات في المكان ذاته يوميًا، دون معالجة البنية التي تولّدها، يتحول القانون إلى إجراء ميكانيكي لا إلى وسيلة إصلاح. وظيفة الدولة لا تقتصر على معاقبة المواطن، بل على تحليل أسباب السلوك الخاطئ ومعالجته من جذوره.

حتى مشكلة الكلاب الضالة التي تؤرق المدن والقرى لم تعد تفصيلًا هامشيًا، بل أصبحت رمزًا لفشل إدارة المجال العام. فهي تكشف مدى ضعف التنسيق بين البلديات ووزارات الصحة والزراعة والأمن، وتظهر كم نحن بعيدون عن مفهوم الحوكمة المتكاملة الذي يجمع بين المسؤوليات بدل أن يوزع الأعذار.

ويتعمق الاحتكار الاقتصادي ليضيف بعدًا جديدًا للأزمة. فـ12% فقط من المنشآت الاقتصادية تستحوذ على 68% من حجم النشاط الاقتصادي، فيما ارتفع الدين العام إلى 117.2% من الناتج المحلي الإجمالي، ووصل معدل البطالة بين الشباب إلى 22.3%. حين يُختزل السوق في أيدي قليلة، يُختطف القرار الاقتصادي، وتُشلّ العدالة الاجتماعية، ويتراجع الإبداع الوطني لصالح مصالح مغلقة ومحدودة.

كل ذلك يعكس إشكالية أعمق تتجاوز الإدارة اليومية إلى غياب القيادة الفكرية للدولة. فالدولة ليست جهازًا إداريًا يُدير الملفات فقط، بل رؤية تُلهم الناس وتقودهم نحو المستقبل. الإدارة التي لا تجرؤ على المواجهة، ولا تسمّي المشكلات بأسمائها، تفقد قدرتها على القيادة. والمواطن الأردني اليوم لا يحتاج إلى وعود جديدة بقدر حاجته إلى نظام تفكير جديد.

الشعب الأردني، رغم كل ذلك، لا يزال وفيًا وصبورًا، لكنه بدأ يشعر أن صبره يُستنزف في الانتظار لا في البناء. يعيش الناس بين ارتفاع الأسعار وضعف الخدمات وشحّ الأمل، ومع ذلك يحافظون على انتمائهم وإيمانهم ببلدهم. لكن الإيمان وحده لا يكفي؛ إذ يجب أن يجد طريقه إلى الفعل والسياسات العادلة التي تكرّم هذا الانتماء بالفعل لا بالشعارات.

الحل لا يكمن في تبديل الأشخاص أو إصدار تعليمات جديدة، بل في إعادة هندسة التفكير الوطني نفسه. يجب أن تُدار الدولة بعقلية الإنجاز لا بعقلية التبرير، وأن يُعاد الاعتبار للكفاءة على حساب الواسطة، وأن يصبح إصلاح التفاصيل اليومية جزءًا من رؤية كبرى تتكامل فيها القطاعات والمؤسسات. فالأمم لا تُبنى بالخطط الضخمة فقط، بل بالقدرة على معالجة أبسط المشكلات بجدية ومسؤولية، لأن التفاصيل في النهاية هي التي تصنع الأوطان.

إن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يكون مهمة جهة واحدة، بل هو مسؤولية وطنية مشتركة. فالمؤسسات بحاجة إلى النقد البنّاء بقدر ما يحتاج المواطن إلى الوعي والمبادرة. الأمن، والتعليم، والصحة، والإدارة، والمجتمع المدني — جميعها حلقات في سلسلة واحدة؛ إذا ضعفت حلقة منها اختلّ البناء كله. وحدها الشراكة الواعية بين الدولة والمجتمع قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص، والتفاصيل الصغيرة إلى ملامح نهضةٍ حقيقية تليق بالأردن وتاريخه ومكانته.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد