بريق الأرقام وصدأ الحقيقة

بريق الأرقام وصدأ الحقيقة

02-12-2025 07:48 PM

في الآونة الأخيرة، برزت مجموعة من التصريحات المثيرة للانتباه حول انتهاء الأردن من إعادة تقدير الحسابات القومية وتغيير سنة الأساس إلى عام 2023 بعد أربع سنوات من العمل، ترافقت مع خطوة غير مسبوقة تتمثل في إدراج الاقتصاد غير الرسمي والأنشطة الرقمية لأول مرة ضمن تقديرات الناتج المحلي، وما نتج عن ذلك من مراجعة تصاعدية للناتج المحلي الإجمالي بنحو 10%، إضافة إلى انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي وفق الحسابات الجديدة، وكذلك تغيّر في معدل البطالة إلى إجمالي السكان. هذه المستجدات بدت في ظاهرها وكأنها تكشف عن تحسن ملحوظ في المشهد الاقتصادي، لكن قراءة نقدية معمّقة تفتح الباب أمام سؤال محوري: هل ما جرى يمثل إنجازًا اقتصاديًا حقيقيًا يعكس دقة وتطورًا في القياس، أم محاولة تجميلية لتحسين الصورة العامة دون تغير فعلي في الواقع؟
إن تغيير سنة الأساس للحسابات القومية خطوة ضرورية تقوم بها الدول عادة كل 5 إلى 10 سنوات، نظرًا لأن الهياكل الاقتصادية تتطور وتظهر قطاعات جديدة، فيما تتراجع أهمية قطاعات أخرى. من هذه الزاوية، فإن إقدام الأردن على تحديث سنة الأساس بعد أربع سنوات من العمل يعدّ من حيث المبدأ جهدًا محمودًا يشير إلى حرص على دقة البيانات وتحديثها بما يتناسب مع الواقع الاقتصادي الجديد. لكن رغم أهميته الفنية، يبقى هذا النوع من التحديثات عرضة للاستخدام الإعلامي والسياسي، خصوصًا حين يتم تقديمه بوصفه دليلًا على تحسين اقتصادي ملموس يشعر به المواطن، وهو ما لا يتوافق بالضرورة مع الحقيقة.
أما إدراج الاقتصاد غير الرسمي والأنشطة الرقمية لأول مرة ضمن تقديرات الناتج المحلي، فهو تطور مهم يعكس إدراكًا لحجم القطاعات التي كانت تعمل خارج السجلات الرسمية. فاقتصاد الظل في الأردن كبير ومؤثر، وإضافته يرفع تلقائيًا قيمة الناتج المحلي التي كانت سابقًا أقل من الواقع. كذلك إدراج الأنشطة الاقتصادية الرقمية يمثل تطورًا طبيعيًا في ظل التحول العالمي نحو الاقتصاد الرقمي. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة دقيقة علميًا وتمثل تطورًا في منهجية القياس، فإنها لا تعني وجود نمو فعلي أو تحسن في الظروف الاقتصادية، ولا تغييرًا في حجم الإنتاج الحقيقي أو مستوى الدخل، بل تعني ببساطة أن عملية القياس أصبحت أكثر اكتمالًا وشمولًا.
هذا يقود إلى النقطة الأكثر حضورًا في الخطاب الرسمي والإعلامي: مراجعة الناتج المحلي الإجمالي بالزيادة بنحو 10% بعد تحديث منهجية الحسابات القومية. هذا الرقم، بقدر ما يبدو مبشرًا عند رؤيته معزولًا، لا يعكس أي توسع اقتصادي حقيقي. لم ترتفع الصادرات، ولم تزد القدرة الإنتاجية، ولم ترتفع دخول الأفراد. كل ما جرى هو تعديل طريقة التقدير ليصبح الحساب أكثر شمولًا. وكأننا أمام ميزان تم تعديله ليظهر رقمًا أقل أو أكثر، دون أي تغير في الوزن الحقيقي. وهكذا يصبح الارتفاع في الناتج ارتفاعًا إحصائيًا محضًا، وليس نموًا اقتصاديًا حقيقيًا.
وبالنتيجة، ولأن نسبة الدين إلى الناتج المحلي تعتمد على حجم الناتج، فقد انخفضت هذه النسبة تلقائيًا بعد مراجعة الناتج إلى الأعلى. وهنا يظهر التجميل بوضوح: فالدين ذاته لم ينخفض، لا من حيث الحجم ولا من حيث العبء، ولا من حيث تكاليف خدمته. التغيير الوحيد هو أن الرقم الذي نقسم عليه الدين أصبح أكبر، أي أن التحسن حدث في المؤشر وليس في الواقع. هذا هو الجوهر الحقيقي لانخفاض نسبة الدين بعد التقديرات الجديدة، وهو ما يجعل هذا “التحسن” تجميلًا ورقيًا لا يعكس تحسنًا ماليًا فعليًا أو تقليصًا لعبء الدين العام.
وفي ما يتعلق بانخفاض نسبة البطالة إلى إجمالي السكان، فإن هذه النتيجة تظهر غالبًا بعد أي تحديث لمنهجيات التعداد وتقديرات السكان. هذا الانخفاض لا يعني تحسنًا في سوق العمل ما لم تتغير أعداد المشتغلين فعليًا أو تتوسع فرص العمل الحقيقية. والواقع أن هذا النوع من الانخفاض قد يكون نتيجة ديمغرافية أو منهجية، أكثر منه انعكاسًا لتغير اقتصادي أو تحسن في فرص التشغيل.
وعند جمع كل هذه العناصر، يظهر بوضوح أن ما قام به الأردن من تحديثات للحسابات القومية هو خطوة علمية ضرورية يجب تقديرها واحترام أهميتها المنهجية. فمن المهم أن تكون الأدوات الإحصائية دقيقة، وأن يعكس الناتج المحلي الحجم الحقيقي للاقتصاد، وأن يتم تضمين القطاعات غير الرسمية والرقمية. لكن في الوقت ذاته، ينبغي الحذر من استخدام هذه التحديثات لإيهام الناس بوجود تحسن اقتصادي ملموس لم يحدث فعليًا. فالأرقام قد تلمع على الورق، وقد يبدو الناتج أكبر والدين أصغر والبطالة أقل، لكن الواقع لا يتغير إلا بنموّ حقيقي في الإنتاج، وبتحسن في دخول الأفراد، وبخلق فرص عمل، وبزيادة الإنتاجية.
وهنا تبرز حقيقة أساسية ينبغي التأكيد عليها: نجاح الحكومات أو فشلها لا يُقاس بالأرقام المجردة، ولا بالتحسينات الإحصائية، ولا بالنتائج التي تُصاغ في التقارير الرسمية، بل يُقاس بما يلمسه المواطن في حياته اليومية. فالبيانات التي يُبنى عليها نجاح الحكومة أو فشلها لا تتجسد في الأرقام اللامعة، بل في قدرتها على تحسين الخدمات العامة المقدمة للمواطنين وعلى رأسها التعليم والصحة، وفي قدرتها على توفير فرص عمل حقيقية للشباب العاطلين، إلى جانب تقليل العجز في الموازنة العامة بصورة ملموسة ومستدامة. كما يظهر النجاح في وقف تدوير المناصب بين الأشخاص أنفسهم، وفي مكافحة الفساد ومحاسبة المتورطين فيه دون اعتبارات قبلية أو موقعية، وفي رفع رواتب المتقاعدين العسكريين والمدنيين، خصوصًا القدامى منهم الذين تآكلت دخولهم عبر السنين، إضافة إلى تخفيض الرواتب الخيالية لبعض المسؤولين بحيث تصبح منسجمة مع قدرات الدولة ومعايير العدالة الاجتماعية. فهذه المعايير مجتمعة، لا المؤشرات الورقية، هي التي تصنع الثقة وتحدد اتجاه البوصلة بين نجاح السياسات أو تعثرها. فمن دون تحسين فعلي في هذه الجوانب، ستظل التحديثات الإحصائية أشبه بطلاء لامع فوق جدار متصدّع، وقد يلمع الجدار في الصورة، لكن التصدّع يبقى هو الحقيقة التي يعيشها الناس.
وما لم يتحقق ذلك، ستظل الأرقام الجديدة مجرد صورة محسّنة، جميلة في التقارير والعروض، لكنها لا تجد صداها في حياة الناس اليومية، ليبقى الاقتصاد الحقيقي — لا الورقي — هو الحكم الفصل على جدوى السياسات ونجاعة الإصلاحات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد