الدور الاقتصادي الغائب للسفارات الأردنية في الخارج

mainThumb

31-10-2025 11:42 AM

رغم أن الأردن يمتلك أكثر من 50 سفارة حول العالم، إلا أن أثرها الاقتصادي ما يزال محدوداً مقارنة بإمكاناتها السياسية، وفي عالم اليوم، لم تعد السفارة مجرد مبنى تمثيلي أو موقع سياسي ينحصر في إصدار التأشيرات وحضور المناسبات الدبلوماسية، بل أصبحت "واجهة اقتصادية واستثمارية وتسويقية" للدولة التي تمثلها، غير أن المتأمل في أداء السفارات الأردنية في الخارج، وخصوصاً في الدول الغربية، يلحظ غياب هذا الدور الحيوي، أو على الأقل ضعف تفعيله بالشكل الذي يليق بمكانة الأردن السياسية وموقعه الجغرافي وقدراته البشرية.

السؤال الذي يفرض نفسه: أين هو الدور الحقيقي للسفراء الأردنيين في تسويق المنتجات الوطنية، وجذب الاستثمارات، والترويج للأردن كوجهة سياحية وسياسية آمنة ومؤثرة في الإقليم؟ وأين هي المبادرات المنظمة التي تربط الجاليات الأردنية بالخارج بمشروع وطني متكامل، يجعل منهم سفراء غير رسميين لبلدهم في مجتمعاتهم الجديدة؟

المشكلة أن كثيراً من السفارات ما زالت تعمل بعقلية إدارية تقليدية، تُركّز على البروتوكول أكثر من الفعل، وعلى التمثيل أكثر من التأثير، بينما تتعامل الدول المتقدمة مع سفاراتها باعتبارها "أذرعاً اقتصادية ذكية" تمتلك أهدافاً كمية ومؤشرات أداء واضحة، تُقاس من خلالها كفاءتها.

في المقابل، يمكن الاستفادة من التجارب الدولية التي جعلت من السفراء قادة اقتصاديين، فعلى سبيل المثال، نجحت فنلندا في إعادة تعريف دور الدبلوماسية من خلال ما يسمى بـ"الدبلوماسية الابتكارية"، حيث يُكلّف السفير بالترويج للشركات الوطنية في مجالات التكنولوجيا والتعليم، ويُقاس أداؤه بناءً على حجم العقود والشراكات التي يحققها.

أما كوريا الجنوبية، فقد جعلت من سفرائها في أوروبا والولايات المتحدة قادةً لحملات تسويق عالمية لمنتجاتها التقنية، مثل "سامسونغ" و"هيونداي"، عبر شراكات استراتيجية مع كبرى الشركات في تلك الدول.

كذلك، اتبعت سنغافورة نموذجاً ملهماً، إذ ربطت بين وزارة الخارجية وهيئة الاستثمار والتجارة الخارجية ضمن إطار واحد يسمى "دبلوماسية التنمية"، حيث يحمل السفير معه ملفات محددة للمستثمرين المستهدفين في البلد المضيف، ويقدّم لهم عروضاً مبنية على تحليل دقيق للفرص في وطنه، هذا النموذج جعل من السفراء أدوات مباشرة لجلب الاستثمارات وتوسيع الصادرات الوطنية.

في الحالة الأردنية، يمكن استلهام هذه النماذج لتطوير "الدبلوماسية الاقتصادية الأردنية" عبر حزمة إجراءات عملية، مثل إعداد خطة تسويقية وطنية لكل سفارة ترتبط بمؤشرات أداء سنوية قابلة للقياس، وإنشاء وحدة اقتصادية داخل السفارات تُعنى بمتابعة فرص الاستثمار والتجارة والسياحة في البلد المضيف.

كما يمكن تنظيم لقاءات دورية بين السفراء والجاليات الأردنية، تُبنى على أهداف محددة مثل تسويق المنتجات الأردنية أو الترويج للسياحة العلاجية والتعليمية، إلى جانب تدريب السفراء والملحقين الاقتصاديين على مهارات التسويق والاتصال الفعال وبناء شبكات الأعمال.

ومن المقترحات العملية التي يمكن أن تسهم في تفعيل هذا الدور، أن تقوم السفارات الأردنية بتنظيم مهرجانات تسويقية سنوية بالتعاون مع الجاليات الأردنية، لعرض المنتجات الوطنية من الصناعات الغذائية والدوائية واليدوية، وإقامة أيام أردنية في الجامعات الغربية تُعرض فيها الفرص التعليمية والاستثمارية والسياحية في الأردن، إلى جانب استخدام الشاشات التفاعلية في قاعات السفارات والمراكز الثقافية لإبراز الوجه السياحي والديني والعلاجي للأردن عبر عروض مرئية مميزة. كما يمكن إطلاق مبادرة رقمية بعنوان "اكتشف الأردن" بالتعاون مع شركات التكنولوجيا الأردنية، ليتمكن الزوار في الدول المستضيفة من التعرف على الأردن افتراضياً بطريقة حديثة وجاذبة.

إن إعادة تعريف وظيفة السفير الأردني من "مُمثل سياسي" إلى "قائد تسويقي وتنموي" سيعيد للسفارات دورها الحقيقي في خدمة الاقتصاد الوطني، وسيسهم في بناء صورة حديثة للأردن كدولة ديناميكية تمتلك رؤية واضحة ومبادرة فاعلة. فالسفارة ليست فقط جواز سفر أو ختم تأشيرة، بل هي بوابة استراتيجية لفتح الأسواق، واستقطاب الاستثمارات، وبناء ثقة العالم بقدرات الدولة الأردنية.

وفي هذا السياق، يمكن للدبلوماسية الاقتصادية الأردنية أن تُحدث أثراً ملموساً على ميزان المدفوعات من خلال زيادة الصادرات وجذب العملة الصعبة، ورفع تنافسية المنتج الأردني في الأسواق العالمية، وتعزيز صورة الأردن كدولة منتجة لا مستهلكة، فالصادرات الأردنية بلغت نحو 8.5 مليار دينار عام 2024، ويمكن أن ترتفع بنسبة 15-20% خلال خمس سنوات إذا ما تم تفعيل الدور التسويقي للسفارات بشكل ممنهج ومدروس، كما أن تعزيز العلاقات الاستثمارية الخارجية قد يرفع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 10% سنوياً، وهو ما ينعكس على التشغيل والنمو الاقتصادي المحلي.

ولضمان استدامة هذا التحول، ينبغي تدريب السلك الدبلوماسي الجديد على أدوات التحليل الاقتصادي والسياسات التجارية، وربط السفارات بمراكز الدراسات الاستراتيجية والاقتصادية الأردنية لتوفير قاعدة معرفية وتحليلية داعمة لصنع القرار الخارجي، كما يُقترح إنشاء نظام تقييم سنوي للسفراء يعتمد على مؤشرات كمية، مثل عدد الاتفاقيات الاستثمارية الموقعة، وقيمة الصادرات الجديدة التي ساهمت بها السفارة، وعدد الشراكات التي تم تأسيسها بين الشركات الأردنية والأجنبية.

إن هذا الدمج بين الدبلوماسية والمعرفة الاقتصادية سيمنح الأردن ميزة تنافسية ويجعل صوته أكثر تأثيراً في المشهد الدولي، ويحوّل السفارات إلى أدوات إنتاجية فاعلة ترفد الاقتصاد الوطني وتُسهم في رفع مكانة الأردن على الخارطة الاقتصادية العالمية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد