لغز موت «المفتّش بْوارو»
قبل نصف قرن بتمامه في 06/08/1975 نشرت «نيويورك تايمز» خبرا مع صورة في الزاوية اليمنى السفلى من صفحتها الأولى جاء فيه: «توفي في إنكلترا هيركول بوارو المحقق البلجيكي الذي اشتهر عالميا. اكتسب شهرة كمحقق خاص، كانت مسيرته المهنية، الأبرز في عالم الخيال. في نهاية حياته، كان يعاني من التهاب المفاصل وقلب ضعيف. ويضع شعرا وشاربا مستعارين لإخفاء علامات الشيخوخة، التي تسيء إلى غروره». وكانت سابقة أن تنشر جريدة رصينة عالمية الشهرة خبر وفاة شخصية لا وجود لها في الواقع، اخترعتها كاتبة باعت من رواياتها ملياري نسخة، ويندر أن تجد لغة لم تترجم إليها، وتوفيت قبل قرابة نصف قرن مخلّفة ثروة تقدر بـ600 مليون جنيه إسترليني (ما يعادل أكثر من 8 مليارات دولار حاليا باحتساب معدل التضخم)، ومع هذا.. لخبر «نيويورك تايمز» علاقة وثيقة بحكاية المال هذه!
ولكن من هو المفتش هركيول بوارو، الذي نعته الجريدة؟ مِن خلال 33 رواية ومسرحيتين و51 قصة ظهر فيها، نعرف أنه ضابط شرطة بلجيكي متقاعد، لجأ إلى بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث عمل محققا خاصا يحل أعقد القضايا معتمدا – كما كان يردد دائما في لازمته الشهيرة – على «خلاياه الرمادية». وقد رسمت أغاثا كريستي صورة له فكتبت: «كان رجلا صغيرا ذا مظهر استثنائي. طوله لا يتجاوز مترا وثلاثة وستين سنتيمترا، وشكل رأسه يشبه البيضة تماما، شاربه صلب للغاية، على غرار الشارب العسكري. وكان مظهره أنيقا، أعتقد أنّ ذرة غبار كانت ستؤلمه أكثر من جرح ناجم عن طلقة نارية». ظهر المفتش بوارو في أول روايات أغاثا كريستي «قضية ستايلز الغامضة» التي نشرتها سنة 1920، وقد كتبتها قبل ذلك بأربع سنوات، ورفضتها عدة دور نشر، ولكن عندما وجدت طريقها إلى الضوء كتب عنها محرر ملحق «التايمز» الأدبي «الخطأ الوحيد في هذه القصة هي أنها مبدعة للغاية». ومن يومها وعلى امتداد خمس وخمسين سنة لم تفترق الكاتبة عن بطلها حتى وفاتها، أما هو فقد بدأت شهرته الفعلية بعد أوّلِ ظهور له بست سنوات في رواية «مقتل روجر أكرويد» ذات النهاية المفاجئة جدا، وتتالت مع روايات أخرى صنعت مجد أغاثا كريستي مثل، «جريمة في قطار الشرق السريع» و»الجرائم الأبجدية» و»موت فوق النيل»، التي اعتبرت واحدة من أهم عشر روايات بوليسية عبر التاريخ.
ورجوعا إلى علاقة خبر موت بوارو بالمال، نعود إلى سنة 1940 وغارات الألمان تحوّم فوق سماء لندن، في هذا الجو المحاصر بالموت وخوف أغاثا كريستي أن لا تنجو، قرّرت أن تترك بوليصة تأمين لابنتها الوحيدة روزاليند هيكس ولزوجها عالم الآثار ماكس مالوان، ولم تكن هذه البوليصة سوى روايتين تعود حقوقهما بعد نشرهما إلى هذين الوريثين، فكتبت رواية «الجريمة النائمة» Sleeping Murder وبطلتها الآنسة ماربل الشخصية الأساسية في العديد من رواياتها، ورواية «الستارة» curtain وبطلها شخصيتها الأثيرة هركيول بوارو، ولكن اللافت في هذه الرواية، أن بوارو يموت فيها، واحتفظت بالمخطوطتين ثلاثين عاما في خزنة مصرفية. ولم تُنشر الروايتان إلا ثلاثين سنة بعد ذلك.
والسؤال: لماذا قتلت الروائية بطلها، ثم أرجأت إعلان موته إلى ما بعد رحيلها؟ الجواب البديهي هو أنها أرادت أن تغلق القوس الذي فتحته سنة 1920 بنفسها، فأعادت بوارو في الرواية إلى مكان ظهوره الأول في قصر ستايلز، سادّة الطريق على من يأتي بعدها لكتابة فصول أخرى من تحقيقات هذا المفتش، الذي تبيض قصصه ذهبا، وأجّلت أغاثا إعلان الوفاة إلى ما بعد رحيلها حتى لا تثير موجة من الاعتراضات من «فانزاته» بمصطلحات اليوم، مستحضرين في الأذهان ما حدث مع مثَل أغاثا الأعلى في الرواية البوليسية آرثر كونان دويل، فحين أنهى حياة بطله شرلوك هولمز في إحدى رواياته، حدث ما لم يكن في الحسبان من ردود فعل جماهيرية غاضبة للغاية في بريطانيا وخارجها، حيث ألغى 20000 مشترك اشتراكاتهم في مجلة The Strand Magazine، التي نشرت القصة وكتب القراء رسائل غاضبة إلى المجلة، وارتدى بعضهم شارات سوداء حدادا على هولمز. وسُمّي كونان دويل «قاتل هولمز»، ما اضطره لأن يعيد إحياء بطله بحيلة فنية نزولا عند الضغط الجماهيري، لذلك أرجأت أغاثا كريستي موت بوارو إلى ما بعد رحيلها، وواصلت نشر روايات من بطولته إلى روايتها ما قبل الأخيرة «ذاكرة الأفيال» سنة 1972.
قبل وفاة أغاثا كريستي بأربعة أشهر (يناير/كانون الثاني 1976) أطلقت الروائية سراح «الستارة» التي بقيت في سجنها الحديدي في أحد المصارف أزيد من 30 سنة، فكانت بذلك آخر روايات «ملكة الجريمة» كما كانت تلقّب، في حين أن روايتها الثانية «الجريمة النائمة» نشرت بعد وفاتها بتسعة أشهر. ولعل كريستي وقد بلغت من العمر آنذاك خمسة وثمانين عاما، وكانت تعاني من مشاكل في القلب، وتحسّ بعجزها عن الكتابة، لم تجد بُدّا من مزامنة موتها مع موت رفيق عمرها المفتش بوارو، الذي وصفته بعد عشر سنوات من خَلقه بأنّه «لا يطاق» أما بعد ذلك بثلاثين سنة، فقد وجدته «أحمقَ صغيرا بغيضا ومتكبرا ومزعجا وأنانيّا»، ومع ذلك كانت ترفض إنهاء حياته مؤكّدة أن من واجبها أن تنتج ما يحبه الجمهور مما يذكّرنا مرةّ ثانية بشرلوك هولمز.
كتبت أغاثا كريستي رواية «الستارة» وهي في الخمسين من عمرها، أي قبل ثلاثة عقود ونصف من وفاتها، ولكن أجواء الحرب العالمية وما رافقها من حضور يومي للموت، جعل الروائية تتأثر بها ويتعاظم عندها الشعور بقرب نهايتها، وهذا سبب سعيها لتأمين ورثتها من بعدها، فحملت الرواية طابعا تأمليا في الزمن والشيخوخة والموت، وقد لاقت اهتماما عالميا كبيرا وقت صدورها، ووصفها النقاد بأنها «تحفة وداعية تجمع بين العمق العاطفي والبراعة التقنية»، وبمثابة خاتمة نهائية ومثالية لمسيرة بوارو المهنية، التي جاوزت نصف قرن. وصدورُها قبل وفاة أغاثا بأشهر قليلة، رغم أنها كتبت قبل ذلك بعقود جعلها أشبه بوصية أدبية، فحتى بوارو في الرواية يشبهها في وضعه الصحي، إذ نفتقد ذلك الرجل قصير القامة الممتلئ حيوية ونجد محلّه عجوزا مقعدا على كرسي متحرك، بل سلبته أغاثا كريستي حتى بعض ملامح شخصيته الخارجية، فشَعره الناعم وشاربه المميز اختفيا ليحلّ مكانهما شعر مستعار وشارب مزيّف، دون أن يفقد المفتش دقة ملاحظته وسرعة بديهته وحدة ذهنه.
وجرائم القتل نفسها التي تعّودنا عليها في روايات أغاثا لم تعد تقنية خالصة، بل أدخلتْ عليها العامل النفسي، فالقاتل في هذه الرواية لا يلوّث يديه بالجريمة، بل يتلاعب نفسيا بأشخاص في لحظة ضعفهم ويدفعهم إلى القتل، لذلك اعتُبرت الرواية عملا رمزيا ومؤثرا أكثر من كونها لغزا محضا، ففيها تركيز على البعد النفسي، وأثارت فيها أغاثا أيضا معضلة أخلاقية كبيرة ما زالت محل جدل إلى يومنا هذا، حيث تقف العدالة الأخلاقية في مواجهة العدالة القانونية، وهل يسمح لشخص بتجاوز القانون لتحقيق العدالة، وهذا ما فعله بوارو في الرواية حيث لم يجد حلا لإيقاف القاتل سوى بقتله بالسم (سلاح أغاثا الأشهر في أغلب رواياتها)، وكان هذا الحل الاضطراري سبب وفاة بوارو نفسه حين امتنع عن تناول دوائه وهو يعلم أن عاقبة ذلك موته الحتمي.
حين سمحت أغاثا كريستي لهركيول بوارو أن يغادر المسرح معها (وهو عنوان روايتها بالفرنسية) كانت كأنها تكتب الفصل الأخير من حياتها، التي لا تقلّ إدهاشا عن أكثر رواياتها غموضا، أغاثا كريستي التي لم تدخل المدرسة وتعلّمت في البيت، وكتبتْ أوّل رواياتها تحدّيا لأختها، وسافرت إلى المشرق وأحبته، وتزوجتْ عالم آثار، وأنشأتْ مؤسسة ضخمة تستثمر فيها أموالها، واقتُبست رواياتها في عدد لا يحصى من الأفلام والمسلسلات، وكَتبتْ مسرحية «مصيدة الفئران»، العمل الأكثر نجاحا والأطول عمرا في تاريخ الأعمال المسرحية على مستوى العالم، إذ لم ينقطع عرضه منذ 1952، هي الكاتبة نفسها التي صنعت شخصية هركيول بوارو، فجعلتنا نصدّق بوجوده ونقرأ نعيَه في جرائد شهيرة حين مات. ألم يحن الوقت لنرى في عالمنا العربي أعمالها في طبعة كاملة غير مشوّهة أو محذوف منها ولا سيئة الترجمة، وتلك حكاية أخرى!
شاعرة وإعلامية من البحرين
أوقع 96 إصابة .. طالب ضحية تنمر يفجر مدرسته
الرئيس الفرنسي يستضيف الرئيس الفلسطيني الثلاثاء
منتدى التواصل الحكومي يستضيف المدير التنفيذي لبورصة عمان
خلال 9 دقائق .. ساعة يد تحصد 17.6 مليون دولار في مزاد
ماسك يحتفل بالتريليون بفيديو ذكاء اصطناعي مثير
الاحتلال الإسرائيلي يسلّم 15 جثمانا لشهداء من غزة
الملك يبحث مع رئيس وكالة جايكا اليابانية توسيع الشراكة
ارتفاع أسعار الذهب محليًا الاثنين
ترامب يهاجم بي بي سي: صحافيون فاسدون ومضللون
iOS 26 يتيح تمديد الساعة على شاشة القفل
خالد القيش: دور تيم حسن في الهيبة لا يناسبني
الاحتلال يواصل عمليات نسف منازل في حي الزيتون
أحلام تطلق مسابقة شعرية عن الرجل بجائزة ضخمة
الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي: الحلم المؤجل لآلاف المتقاعدين
نقيب المعاصر يكشف سبب ارتفاع سعر الزيت وموعد انخفاضه
نشر نتائج الفرز الأولي لوظيفة أمين عام وزارة الصحة
مدعوون للامتحان التنافسي في الحكومة .. تفاصيل
تنكة زيت الزيتون إلى ارتفاع والسعر يستقر عند أرقام قياسية .. تفاصيل وفيديو
وظائف شاغرة في أمانة عمان .. رابط
توجه لرفع تسعيرة الحلاقة في الأردن
تعيينات جديدة في التربية .. أسماء
زهران ممداني… حين تنتخب نيويورك ما لم يكن متخيلاً
الفايز: الأردن يخرج أصلب من الأزمات
خريجة من الهاشمية تمثل الأردن في قمة عالم شاب واحد
القاضي: الوطن فوق كل المصالح الضيقة


