المكونات المجتمعية والتعايش المشترك
التنوع المجتمعي المشرقي في منطقتنا، خاصة في كل من العراق، تركيا، سوريا، لبنان، ليس حالة طارئة، بل يمثل ظاهرة متجذّرة في مجتمعاتنا، ويشكل بعداً راسخاً في هويتها على مر العصور.
فقد شهدت المنطقة بفعل تنوع تضاريسها وأقاليمها المناخية، وتوسطها بين قارات العالم القديم، ووجود ممرات مائية حيوية فيها، فضلاً عن ثراء حياتها الروحية، وكونها مهد الديانات السماوية الثلاث، صراعات مستمرة على أراضيها سواء بين أطرافها المحلية، أم بين القوى الخارجية التي كانت تتصارع على خيرات المنطقة، وتتطلع إلى امتلاك مقوّمات القوة الاستراتيجية التي يضمنها كل من يسيطر عليها؛ وهذا كله كان يتجلى في البنية السكانية التي كانت تكتسب ملامح متجددة باستمرار من جهة التوجهات العقائدية والانتماءات الأقوامية.
وقد تمكّنت مختلف المكونات المجتمعية من التعايش المشترك في إطار الدول الإمبراطورية التي عرفتها المنطقة (الأكدية، الآشورية، الفارسية، البيزنطية، الرومانية، الأموية، العباسية، العثمانية)؛ إذ لم تتدخل تلك الإمبراطوريات بصورة عامة في خصوصيات تلك المكونات، وإنما اكتفت بالحصول على ولائها من خلال الضرائب والمقاتلين. وقبل تشكّل هذه الإمبراطوريات، أو في مراحل غيابها أو انهيارها لاحقاً، كانت تلك المكوّنات تعيش في عوالمها الخاصة بها، وتضمن احتياجاتها بجهودها الذاتية في مجالات الزراعة والحرف المختلفة، ومن خلال تعاملها مع الكيانات، أو أشباه، الدول المجاورة أو حتى البعيدة عبر الطرق التجارية.
أما مشاريع الدول القومية والدينية والمذهبية فقد كانت وبالاً على المنطقة، تسبّبت في حروب وصراعات لم تنته منذ نحو مئة عام، بل هي مرشحة للمزيد من التصعيد ما لم يتم التوصل إلى حلول استيعابية إبداعية لقضايا التنوع المجتمعي الذي تتسم به دول المنطقة التي أخفقت فيها الإيديولوجيات الاستعلائية وحيدة البعد، ولم تتمكن بعد من اعتماد مشاريع وطنية جامعة؛ مشاريع تراعي الخصوصيات والحقوق، وتضمن الوحدة البشرية والترابية في ظل سيادة وطنية تشمل الجميع.
الدولة الوطنية هي البديل المناسب لمنطقتنا. وهذه الدولة ليست الدولة القومية التي التزمت الإيديولوجية القومية، وحاول أصحابها فرض تفسيراتهم الذاتوية للتاريخ، وتصوراتهم الرغبوية للمستقبل، على الجميع. وعملوا على فرض خرافة الوحدة العنصرية على المجتمعات، مجتمعات لا تتقبّل بنيتها المتنوعة الصور والقوالب المفروضة، ولا تنسجم معها بأي شكل من الأشكال.
واليوم، إذا أمعنّا النظر في مختلف انحاء منطقتنا؛ سنلاحظ أن الواحة الواعدة، على صعيد احترام التنوع المجتمعي والمحافظة عليه، يتمثّل في إقليم كردستان العراق. فرغم الغالبية العددية الكردية الواضحة في الإقليم، هناك تنوع مجتمعي فريد من نوعه على صعيد الانتماءات القومية والدينية والمذهبية يتسم بها الإقليم. هناك الكلدان والآشوريون والسريان والأرمن، وهناك العرب والتركمان، وهناك السنة والشيعة وأهل الحق والإيزيديون وغيرهم؛ ولكن الجميع هم من مواطني الإقليم. القانون يسري على الجميع من دون أي تمييز. كما أن الدستور يحترم خصوصيات سائر المكوّنات ويضمن حقوقها. ولم تسجلّ محاكم الإقليم منذ أكثر من ثلاثين عاماً حادثة واحدة كانت بفعل التمييز العنصري أو الديني أو المذهبي. وتفسير هذه الظاهرة التي باتت نادرة في شرقنا المغلوب على أمره هو ثقافة احترام الآخر المختلف بين الشعب بكل مكوناته. فمن دون وجود مثل هذه الثقافة لن تكون القوانين والإجراءات الرادعة مجدية بالشكل المطلوب. ورغم أهمية هذه الأخيرة وضرورة وجودها، إلا أن ثقافة القبول بالآخر المختلف والإقرار بحقه، شائعة بين أوساط مختلف المكوّنات من دون أي تكلّف أو تكليف، وهي التي تمثّل البيئة المحصّنة تجاه سائر أشكال التعصب والتمييز.
استخدام سلاح الانتقام بين أبناء الوطن الواحد لن يؤدي سوى إلى المزيد من القتل والتدمير والتصدعات المجتمعية؛ هذا في حين أن ثقافة التسامح والمصالحة الوطنية هما المدخل لتبديد الهواجس وطمأنة الناس، وتوفير وتعزيز شروط العيش المشترك. وكل ذلك يستوجب خطوات دستورية وقانونية ملموسة، ومناهج دراسية في مختلف مراحل التعليم تركز المشتركات الوطنية وترسخ احترام التنوع بكل أشكاله، بالإضافة إلى مؤسسات دولة حيادية تجاه سائر مواطنيها، مهمتها تنفيذ القوانين واتخاذ الإجراءات بحق المخالفين.
احترام الخصوصيات المجتمعية والإقرار بحقوق المكونات في إقليم كردستان العراق هما من الحقائق التي نجدها اليوم موجودة على أرض الواقع. فهناك التعليم باللغة الأم لكل المكونات، وهناك المؤسسات الثقافية والإعلامية الخاصة بمختلف المكونات، إلى جانب الأندية والجمعيات والأحزاب والمشاركة في السلطات الثلاث، بالإضافة إلى الحرص على التطوير المتوازن لكل المناطق من دون أي اهمال أو تمييز. هذا الكلام ليس من باب الدعاية، وإنما هو وصف لما عليه الأمور حقيقة في الإقليم، وقد شاهدت شخصياً كل ذلك عن قرب. ويستطيع كل مهتم متابع لهذا الموضوع أن يسافر، ويطلع على الأمور بنفسه.
هذه الواحة المطمئِنَة يمكنها أن تصبح نموذجا لمجتمعات المنطقة كلها التي تتشابه بنيتها المجتمعية مع البنية المجتمعة في إقليم كردستان. وما يشجع أكثر في هذا السياق، هو ان الإقليم قد تمكّن، رغم كل التحديات، بفعل العقلية الاستيعابية الجامعة من تحقيق ازدهار لافت على صعيد العمران والمؤسسات التعليمية والصحية وتأمين الكهرباء، وكل ذلك قد بات موضع إعجاب وتقدير القريب والبعيد.
هناك إشادة مستمرة بالتجربة السنغافورية في ميدان امكانية تحقيق نهضة اقتصادية في بيئة محدودة الإمكانات على صعيد الموارد الطبيعية والبشرية والمساحة الجغرافية، ولكن شرط توفر الإدارة الحكيمة، والإرادة الجادة، والالتزام بشروط النزاهة والشفافية والتشريعات المحفزة، وسيادة القانون على الجميع. والتجربة السنغافورية ناجحة من دون شك، وتصلح أن تكون نموذجاً للاقتداء من مجتمعاتنا التي ينهكها الفساد أساس كل الشرور.
ولكن الأهم بالنسبة لنا اليوم، خاصة في سوريا، أن نفكّر في كيفية ترميم النسيج المجتمعي الوطني، ونعمل من أجل ذلك. ويمكننا في هذا المجال أن نستفيد من التجارب الفاشلة كي لا نكررها، والناجحة كي نأخذ عنها، خاصة تلك التجارب القريبة منّا التي تتقاطع خطوطها وسماتها مع واقعنا، ولديها بيئة ومشكلات شبيهة بتلك التي لدينا.
ومن هنا فإن الاستفادة من تجربة إقليم كردستان العراق سيكون أمراً حيوياً مثمراً في واقعنا السوري. فالإقليم كما نعلم عانى هو الآخر، من استبداد سلطة البعث والدكتاتورية على مدى عقود؛ وعانى سكانه من مجازر غير مسبوقة في عالمنا المعاصر، ومنطقتنا على وجه التحديد. ومع ذلك تمكّن من التعافي بسرعة قياسية، ولم يسمح بتحوّل الخلافات مع السلطات السياسية إلى خلافات تناحرية بين المكونات المجتمعية، وإنما على النقيض من ذلك استثمر في العلاقات الجيدة بين المكونات، ووفرّ الأرضية لتنميتها وترسيخها من أجل تدوير الزوايا؛ وذلك بغية الوصول إلى توافقات في الميدان السياسي لصالح استقرار العراق، وإبعاده عن دائرة الزلازل الكبرى التي تشهدها المنطقة.
لقد عانينا في سوريا كثيراً من الاضطهاد والاستبداد اللذين تعرضت لهما سائر المكونات السورية، مع تباينات بين ما تعرض له من ظلم هذا المكون أو ذاك. وكان هذا الظلم بصورة أساسية في ظل حكم البعث وسلطة آل الأسد الباغية الفاسدة المفسدة، وهي السلطة التي اعتمدت سياسة فرّق تسد في التعامل مع الشعب السوري بمكوناته وشرائحه وقواه السياسية المتنوعة، وذلك في سياق حرصها المستمر على بقائها في الحكم.
ولكن ما يؤسف له الآن، هو أنه بعد تمكّن الشعب السوري من الخلاص بفضل صبره وتحمّله، وإصراره على إسقاط سلطة آل الأسد، وجد نفسه في مواجهة خطاب طائفي مقيت، وآخر عنصري بغيض، وقد أدى الشحن الطائفي المتواصل، واستغلال القوى الداخلية أو الخارجية المتضررة لحالة الفراغ والأخطاء التي كانت في بدايات المرحلة الانتقالية، إلى اندلاع الصدامات العنيفة في منطقة الساحل وفي السويداء، وكانت حصيلتها الآلاف من الضحايا من مختلف الأطراف بغض النظر عن خلفياتهم المجتمعية؛ كما كان هناك الكثير من الانتهاكات التي لا بد وأن يُحاسب المسؤولون عنها، إذا كنا نريد استقراراً مجتمعياً حقيقياً يُعد الركن الأساسي في استقرار الوطن والدولة؛ ويفتح الآفاق أمام الاستثمارات وإعادة الإعمار والنهضة المتوازنة في مختلف القطاعات.
ما نحتاج إليه قبل كل شيء هو ثقافة احترام الآخر المختلف في الإطار الوطني. وهذا يستوجب القطع النهائي مع التجييش الطائفي والعنصري، ووضع حد لنزعات الاستعلاء والتحقير، وعدم الاكتفاء بالمجاملات الخاوية التي تغرقنا بالجمل الانشائية العقيمة غير الملزمة.
وفي موازاة ذلك، نحتاج إلى تشريعات وقوانين وإجراءات رادعة على المستوى الرسمي، إجراءات تسد الطريق أمام أصحاب العقد والمشاريع الخاصة الانتهازية، أو المشاريع العابرة للحدود التي لا تأخذ في حسابها مصالح السوريين ووطنهم.
وكل ذلك لن يكون من دون توفير الأمن والأمان، وأساسيات العيش الكريم، لسائر المواطنين من دون أي تمييز.
*كاتب وأكاديمي سوري
غوغل توسع ميزة تسجيل المكالمات عالميًا لهواتف بيكسل
فيديو لطفلة مصرية يفجر بحراً من الشائعات
انتخابات تشيلي تحسم بين يسار ويمين متطرف
كييف: نسعى لتبادل 1200 أسير مع روسيا
الحكومة تؤكد دعم النزاهة لحماية الاستثمارات الأردنية
58 مهندسا ومهندسة يؤدون القسم القانوني في الطفيلة
ستينية تكشف فظائع ابنها المدمن .. فيديو
ميتا تطلق تحديثات جديدة وتدمج Meta AI في سوق فيسبوك
شاكيرا تخطف الأنظار بإطلالة متطابقة مع ولديها .. صور
كاتس: لن تقوم دولة فلسطينية وباقون في جبل الشيخ
الاستثمار نهج تشحنه رؤية ملكية… وتفرغه جيوب النفوذ
الأمن العام يواصل حملة تفقد جاهزية المركبات الشتوية
نهنئة لــ المعتصم بالله عمر الملكاوي
ما هو غاز الأمونيا وما مخاطره الصحية
تعيينات جديدة في وزارة التربية والتعليم - اسماء
مي عز الدين تعلن زواجها وتفاجئ الجمهور
قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين .. وصمة عار في جبين الإنسانية
وصفة الدجاج بالعسل والثوم والحامض
مدعوون لإجراء المقابلات الشخصية في الأمانة .. أسماء
حماية المجتمع الأردني بالأرقام ..
معدل التضخم سيبقى عند مستواه ..
ارتفاع أسعار الذهب محلياً في التسعيرة الثانية اليوم
أول حالة طلاق في الأردن بسبب حفل هيفاء وهبي
مدعوون للامتحان التنافسي في الحكومة .. أسماء
وظائف شاغرة في وزارة الاتصال الحكومي
