جوخة الحارثي تُذكِّر اللّيلَ بودائعِه

جوخة الحارثي تُذكِّر اللّيلَ بودائعِه

22-12-2025 02:18 AM

أسوأ ما يحدث للكاتب أن يبقى حبيس كتاب ناجح له، فيصبحان توأمين سياميين غير قابلين للفصل، وتغدو فكره تجاوز عمله الناجح هاجسا ينغص عليه الاستمتاع بنجاحه، حدث هذا مع أمبرتو إيكو وأيقونته «اسم الوردة»، والطيب صالح ورائعته «موسم الهجرة إلى الشمال»، وكثير غيرهم، وكل عمل جديد هو حتما موضوع مقارنة بالعمل الناجح، ومسؤولية ينوء تحت ثقلها المؤلف، خطرت لي هذه الفكرة وأنا أقرأ المجموعة القصصية للروائية والأكاديمية العمانية جوخة الحارثي «ليل ينسى ودائعه»، التي صدرت قبل بضعة أشهر عن منشورات تكوين متزامنة مع طبعات أخرى في لبنان والعراق ومصر والجزاٸر وفلسطین. وجوخة الحارثي بدأت كاتبة قصة قصيرة بمجموعة «مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل» قبل ربع قرن، ثم أغوتها الكتابة الروائية وفيها عرفت النجاحات الكبيرة فأصبحت أول شخصية عربية تفوز بجائزة مان بوكر الدولية عن روايتها «سيدات القمر». وبعد ست سنوات على فوز المان بوكر وروايتين جديدتين وبضعة كتب للأطفال عادت جوخة إلى مرفئها الأول القصص القصيرة، في زمن تغوّلت فيه الرواية على الشعر وباقي الأجناس الأدبية، علما بأن فن القصة القصيرة فن مظلوم، أعرض عنه الناشرون والقراء على السواء، مع أنه كان المتسيد للمشهد الإبداعي منذ القرن التاسع عشر بكباره أمثال، تشيكوف وموباسان وكافكا، ويوسف إدريس عند العرب ونجيب محفوظ الذي لم تسرقه الرواية من القصة القصيرة فأصدر قرابة عشرين مجموعة قصصية، وظل مثابرا على كتابتها حتى قبل سنتين من وفاته حين نشر «أحلام فترة النقاهة».

تحوي مجموعة «ليل ينسى ودائعه» 10 قصص قصيرة في حجم متقارب يتراوح ما بين صفحة ونصف (كوكب الزهرة) و14 صفحة (قنديل للمرأة الأخرى) آخر قصص المجموعة، التي جاءت مختلفة شكلا ومضمونا. وعنوان الرواية مستمد من القصة الثامنة «ودائع ليلية»، يشي به مقطع فيها جاء فيه «تنادمنا الليل كله في عين مقهى الليل، سكبنا القهوة قبل الصباح، وحنوت عليه حتى مطلع الفجر، فانسلّ من ليل نسي ودائعه»، وهي من أكثر قصص المجموعة شاعرية، وهذه الشاعرية المتشحة بغلالة من الرمزية ليس حكرا على عنوان المجموعة، بل تنسحب على عناوين القصص جميعها فنقرأ مثلا «النخالة الوردية» و»مذاق النجوم الباردة» و»أوردة رخامية» و»قنديل للمرأة الأخرى»، ومن العبث البحث عن مفاتيح القصص من خلال عناوينها، فهي لا تقدم لنا ملخصات ولا إجابات جاهزة، بل هي مفتوحة على التأويل وقد ننهي القصة ولا نحل غموضها.
وهذه اللعبة المواربة انسحبت حتى على بعض القصص، ففي القصة الأولى «زيارة» تفتح جوخة الحارثي قصتها على لسان البطلة «قررت أن أزور الرجل الذي أحب»، ولكن هذه الصورة لامرأة مصممة قوية تتلاشى مع الاستمرار في القراءة، لتخلي المكان لامرأة مترددة جعلها التفكير في الذعر تدرك أنها مذعورة كما وصفت نفسها، فارتباكها يتجلى من خلال الأسلوب المتشكك المتردد الذي يتجلى في جمل مثل : «اخترت أكثر الأوقات عادية، ربما الضحى أو العصر»، «أعرف أنه محق، أو ربما ليس محقّا»، ويتجلى في تحول شخير قِط إلى مصدر رعب في جمل مثل «تخيلت حشدا من القطط، ستهاجمني وتدميني، وحين ينزل حبيبي ليشتري حاجياته سيجدني جثة ممزقة»، «ماذا لو كان شخير قط ضخم.. ينقضّ عليّ بمخالبه؟». وأغلب الجمل الافتتاحية في القصص تشير بإصبعها إلى المكان «كانا في الجنة»، «كنت أمشي عائدا إلى بيتي»، «كنت جالسة إلى طاولة الإفطار»، وهذا الإفراط في استعمال الفعل الماضي الناقص (كان) يتجاوز الافتتاحيات إلى صلب النص، فقد كررت الكاتبة فعل كان وتصريفاته 26 مرة في قصة «الجنة» وهي قصة من 6 صفحات، و25 مرة في قصة «النخالة الوردية» وهي قصة من 4 صفحات، وكمثال على ذلك هذه الأسطر القليلة الموضوعة على غلاف الكتاب الخلفي « كنَّا جالِسَيْن على كرسيين متجاوِرَيْن. كانا كرسيين من قصب، أو خشب، أو كرتون مقوى. كُنَّا في البيت، نجلس مُتجِهَيْن نحو الباب. ولكن مقابلنا بابان، وليس بابا واحدا. كنا ننظر باستقامة نحو البابَيْن».

هذه الإحالات المتكررة إلى الماضي تعطينا مفتاحا أساسيا من مفاتيح «ليل ينسى ودائعه»، فالقصص في أغلبها حدثت في الزمان الذي مضى، دون تحديد دقيق له بالتواريخ، فلا إشارة تدل على ذلك، وكذلك أمكنة القصص غير معروفة، بل حتى شخصيات القصص، من دون أسماء، فما يهمّ هو السرد نفسه الذي جاء في أغلبه بلسان امرأة، وإن لم نَعدَم صوتا رجاليا مثل قصة «الهدايا في كيس الأزهار» أو قصة «الخرشوكي وبدع أخرى» وأحيانا بلسان راوٍ عليم مثل قصة «الجنة» و»كوكب الزهرة»، فأيّا ما كان الراوي فلا حضور إلا للحب المعطوب أو المجهض، بين رجل وامرأة، حبّ ينتهي حتما بالفراق تلخصه هذه الجملة التي وردت في قصة الخرشوكي «النفق يتطوّى علينا بحلكة أشد، ويدعو كلّا منا في درب»، ورغم هذا المصير الحتمي لأبطال قصص جوخة الحارثي، إلا أن شكل النهاية لا يبوح لنا بسره، فأغلب القصص ذات نهايات مفتوحة (شبيهة ببدايات القصص نفسها، التي تنطلق من نقطة ما في السرد لها ما قبلها، فوصفُها ببداية القصة مجاز لا حقيقة).
ومن النهايات المواربة المتروكة لتأويل القارئ ما جاء في قصة الجنة، حيث يمهد الراوي العليم للقفلة بجملة من الرجل قالها لحبيبته التي خانها حين طلب منها أن تغلق باب الكوخ فـ»هناك الجوازات، لو ضاعت لن نستطيع العودة»، وتختتم القصة بالعودة إلى هذا التفصيل المهم حين «أخرجتْ جواز سفره، قلّبته، ثم بدأت تتخيل كيف سيبدو لو قطّعته إلى نتف صغيرة جدا»، وما حدث بعد ذلك متروك لتأويل القارئ ومخيّلته.
الثيمة الأساسية الثانية في مجموعة «ليل ينسى ودائعه» هي الحلم، فشخصيات قصص جوخة أفراد عاديون مألوفون نلتقي بأمثالهم كل يوم، يحملون أحلامهم التي غالبا ما يكّذبها الواقع بقسوته، ففي القصة الأولى «زيارة» تقول بطلتها «كنت أمشي داخل حلمي، وعلى حلمي أن يمشي معي إلى منتهاه»، في التباس مقصود بين الحلم بمعنى الهدف المرتجى والحلم بمعنى المنام، وكلاهما يفضيان إلى نتيجة واحدة «الخيبة»، بل نجد قصة كاملة محورها الأساس الحلم الذي يصبح أصدق من الواقع، ابتداء من جملتها الافتتاحية القوية «بدأ كل شيء حين أصبحت مسؤولا عن منامات شخص آخر»، فالأحلام هي الحقيقة الوحيدة والراوي عالق فيما تراه حبيبته فـ»كل لعبة جد، ولكل منام حساب، ولكل رؤية تأويل»، ولن ينقذه من المتاهة التي وجد نفسه فيها سؤاله اليائس «كيف يتأتى لإنسان تبرئة نفسه أمام منامات إنسان آخر».

هذه الثيمات في المجموعة القصصية والمكتوبة بنفس سردي أنثوي، من دون السقوط في جموح النسوية، لجأت فيها جوخة الحارثي إلى توظيف الرمزية، من دون ملامسة حدود الغموض، فهي قصص مكتوبة بحساسية تتوسل الحداثة الأسلوبية، وتبتعد عن البناء التقليدي للقصة القصيرة الكلاسيكية ذات البداية والعقدة والحل، قصص مكتوبة بلغة مقتصدة، حُذفت منها الزوائد وقُصَّت منها الترهلات واستعاضت بالتكثيف واعتماد الإشارات التي توحي أكثر مما تقول مباشرة، في تماهٍ كبير مع موضوعات القصص، مع ملاحظة أن بعض التراكيب التراثية تطل برأسها أحيان كقولها «من دون أن ألتقي بسُدّة الاهتمام ولُحمته». كما كان لا بد للجانب الأكاديمي في شخصية الكاتبة، أن يظهر سواء من خلال الإحالات إلى أعمال فنية مثل، لوحة «غرفة في آرل» لفان جوخ، أو إلى كتب كذكرها لكتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، أو من خلال تصحيح خطأ شائع عن كتاب «تفسير الأحلام» الشهير فهو ليس لابن سيرين، بل لأبي سعد عبد الملك بن محمد الخرشوكي. وتبقى الإشارة إلى آخر قصص المجموعة «قنديل للمرأة الأخرى» وهي الأطول أيضا (14 صفحة) فرغم بنائها الكلاسيكي وموضوعها (زواج امرأة ثلاثينية بأرمل يكبرها بـ20 سنة وخيبة أملها في الزواج) إلا أن مسحة من الجرأة (حديث البطلة عن جسدها وتفتحه واحتياجات هذا الجسد) كسر تقليدية القصة وأعطاها بعدا يؤهلها لتكون نواة نص أطول في شكل نوفيلا، أو رواية.
من يقرأ مجموعة «ليل ينسى ودائعه» لجوخة الحارثي وهو يتتبع خطوات «سيدات القمر» سيخيب ظنه، فليست القصص تنويعات لحنية على ثيمة الرواية المشهورة، بل هي سرد خافت يلتقط الإشارات الضئيلة من قلوب حلمت بالحب فحصدت الخيبة، نسي الليل ودائعها فذكّرتنا بها جوخة الحارثي.

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد