معضلة القدس المفتوحة: بواطن تاريخ وحجر
هدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجمعاً سكنياً إضافياً في بلدة سلوان المقدسية، مؤلفاً من 4 طوابق و13 وحدة، كان يأوي 90 ساكناً فلسطينياً، بذريعة البناء غير الشرعي؛ وجاء الهدم بعد صراع دام نحو عقد، سعى خلاله القاطنون لإضفاء الشرعية القانونية على مساكنهم، دون جدوى بالطبع. تلك، كما هو معروف، وجهة أولى من مساعي الاحتلال، والمشروع الصهيوني بأسره في الواقع، لتهويد القدس أكثر فأكثر؛ وتقليص الحضور الفلسطيني في المدينة، الديمغرافي والعمراني والإنساني، بدرجات أدنى فأدنى.
وجهة أخرى هي إغارات المستوطنين، المتدينين والمتطرفين عموماً، على المسجد الأقصى؛ وكانت الواقعة الأحدث قد شهدت اقتحام مئات من هؤلاء باب المغاربة، في الجدار الغربي للمسجد؛ على سبيل إحياء شعائر عيد «حانوكاه»، بحراسة من شرطة الاحتلال، ومرافقة لصيقة. الغرض المباشر هو إسباغ صفة تهويدية على الأقصى والمقدسات الإسلامية، من جهة أولى؛ والتمدد، الأقرب إلى قرض مساحات الانتشار الشعائري، في عمق باحات المسجد ومحيطه، من جهة ثانية. والتحشسد الديني، اليهودي هنا في سطحه المعلن، هو شحن سياسي في العمق؛ لا يخفي وزيران على الأقلّ في ائتلاف بنيامين نتنياهو الحاكم، أيْ إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتش، مطامحه القصوى الاستيطانية والدينية.
وعلى نقيض ما تصوّر حركات التطرف الديني والاستيطاني الإسرائيلية بصدد مدينة القدس، من حيث التوافق العريض حولها في مختلف القوى السياسية الإسرائيلية وشرائح المجتمع والمؤسسات الأمنية والمعاهد الأكاديمية؛ ثمة عناصر عديدة تنغّص ذلك الإجماع المزعوم، ليس بسبب انشقاق عن التفكير العام السائد والانحياز في قليل أو كثير للسردية الفلسطينية، بل لأسباب تتصل جوهرياً بالواقعية التاريخية والرصانة التحليلية. وللمرء هنا، بصدد هذه الحال تحديداً، أن يستعيد نموذجاً طاغياً وحمّال أّوْجُه شتى متضاربة، في آن معاً: الإسرائيلي ميرون بنفنستي ( 1934ـ 2020 )، المؤرّخ والكاتب والسياسي، مؤلف أعمال عديدة يُشار بالبَنان إلى ثلاثة منها على الأقل: «أعداء حميمون: يهود وعرب في أرض مشتركة»، 1995؛ و»مدينة الحجر: تاريخ القدس المخفي»، 1996؛ و»منظر مقدس: تاريخ الأرض المقدسة الدفين منذ 1948»، 2002.
وهذا «المؤرّخ الليبرالي»، كما كان يسمّي نفسه، تصدر طليعة الإسرائيليين ذوي الاختصاص في شؤون القدس الجيو ـ سياسية، والجيو ـ تاريخية، والجيو ـ توراتية في آن معاً. وامتيازه عن سواه من أهل الباع في الشؤون ذاتها، أنه تجاسر بين الحين والآخر على وصف العلّة واقتراح الترياق، حتى حين ظلّ يعلم أنه إنما يقامر بالكثير. كتب، مثلاً، أنه لا يؤمن بإمكانية تطبيق سحر الخيمياء Alchemy من أجل اجتراح معجزات/ حلول لقضية القدس، وكيفية تقاسمها بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ وطالب، استطراداً، بتطبيق علوم أكثر حداثة وجرأة. لكنّ بنفنستي وضعنا ـ هنا، في هذا النقاش التقني حول حدود العقل البشري ـ على مبعدة فادحة وفاضحة من الحقيقة البسيطة التي تقول إنّ القدس محتلة؛ بالتعريف الفعلي على الأرض، كما في التعريف القانوني القابع في أدراج الأمم المتحدة ودول العالم قاطبة، ما خلا أمريكا دونالد ترامب. وإذا كان السياسي الإسرائيلي يوسي بيلين قد تجرأ، مرّة واحدة فقط، على انتهاك المحرّم الأسطوري القائل بعدم جواز تقسيم القدس؛ فإنّ بنفنستي واصل تغذية المحرّم ذاته، على طريقته الخاصة: استنهاض المعجزة وحدها من أجل حلّ مشكلات البشر الأرضية!
وفي كتابه «مدينة الحجر…»، قال بنفنستي إنّ «صهيونية الفلسطينيين» شبيهة بصهيونية الإسرائيليين من حيث الإصرار على ذاكرة القدس، بوصفها مدينة الفردوس المفقود: «كلا الصهيونيتين تتصارعان من أجل الهوية، وتقيمان الحداد على الكارثة الفاجعة، ولا تمييز عندهما بين الديني والسياسي، وبين السلام وسلام القدس». والنتيجة؟ كتب بنفنستي: «إما أن يكون السلام، وإما أن تكون القدس. ولكن لا مجال للحصول على الإثنين معاً».
غير أنّ الرجل ـ لمَن لا يعرفه جيداً ـ كان نائب عمدة القدس الأسبق تيدي كوليك، من 1971 إلى 1978، وكان بذلك على إطلاع تام ويومي بكل تفاصيل عمليات التهويد. وليس من الإجحاف القول إنّ كتابه أشبه بوثيقة نعي لتاريخه الشخصي في مجلس بلدية القدس، ولعجزه عن تفكيك العلاقات الداخلية المعقدة التي ترسم خطوط ضغط التاريخ على الجغرافيا في مدينة لا ينقلب فيها حجر دون أن يشعل معضلة تاريخية. والحجر هنا ليس من نوع المعادن الخسيسة التي يحلم الخيميائيون بتحويلها إلى ذهب (وسياسة، وحلول، وتسويات…)؛ بل هو بالضبط ذلك الحجر التاريخي العتيق، الأثقل في معادلات رسم نهاية سعيدة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، والوحيد الذي لا ينقلب إلا لكي يفتح بوّابات التاريخ على أكثر مصاريعها حساسية وترميزاً.
ومن المفارقة أن بنفنستي نفسه كان قد أعلن أن اتفاق أوسلو الأوّل أخذه على حين غرّة، هو الذي ظلّ يؤمن أنّ المآزق اللاهوتية والعاطفية أشدّ تعقيداً من أن تفسح المجال أمام تقدّم السلام. وفي مقال مشبوب نشره عشية توقيع اتفاقيات أوسلو، تساءل إن كان على خطأ؟ نعم، أجاب بحكمة الليبرالي الذي ينحني أمام جبروت السياسة البراغماتية، واعترف أنه بالغ في تضخيم دور العوامل العاطفية والتقليل من دور السياسة والدبلوماسية. ولقد احتاج إلى أقلّ من ثلاث سنوات كي يعيد تكرار ما كان قد كرّره مراراً وهو يقف على يمين رئيسه كوليك: الصراع من أجل هوية القدس لن يسفر عن ظافر ومهزوم، ما دام باطن الأرض يقذف حممه إلى السطح، فيصيب الصهيونيتين معاً، وبالتساوي كما يبدو.
وفي كتابات سابقة عن القدس أيضاً، تحدث بنفنستي عن إمكانية تطبيق الشعار الأولمبي «أعلى، أسرع، أقوى» على التاريخ المعماري للمدينة، أو تاريخ بنائها على الأرض مثلما في المخيّلة والنصوص الدينية؛ منذ المعماري اليبوسي المجهول وحتى الأب الروسي الأرثوذكسي أنطونين، مروراً بسليمان وهيرود وهادريان وقسطنطين وعمر بن الخطاب. الأديان الثلاثة تبارت في إعلاء صروحها طيلة قرون، ولكنّ بنفنستي احتاج ربما إلى مَنْ يذكّره بأن تاريخ المدينة يحتشد بمعادلات ضاغطة لا تتسع لها الجغرافيا؛ وأنّ مملكة داود لم تكن تتجاوز العشرين أكرة (مقابل أكثر من 27.000 أكرة تحتلها دولة الاحتلال اليوم!)؛ وأن الملك داود جاء إلى فراغ إسرائيلي مقابل امتلاء كنعاني يمتدّ ألف سنة على الأقلّ، قبل أن يقرر تحويل القدس إلى بديل عن الخليل وبيت إيل.
وهكذا، في أبنية سلوان المهدمة أو باحات الأقصى المنتهَكة، واظبت مدينة القدس على الارتداد إلى خصوصيتها الفريدة، التي عجزت جميع الشعوب والديانات والعقائد والقوى الكونية الجبارة عن تبديلها: فرادة المدينة المسكونة بالتاريخ حيث لا ينقلب حجر إلا ويتكشف عن صفحة غابرة تضيء الماضي ثم تمتدّ إلى الحاضر، وتستطيل أخيراً لكي تخيّم على المستقبل أيضاً. إنها البقرة المقدسة عند القومية الاسرائيلية والقومية الفلسطينية كما قال ليبرالي إسرائيلي آخر هو الروائي عاموس عيلون، ولكنها تصبح أكثر من بقرة لاهوتية مقدّسة حين يصطدم تهويدها بعبوة بشرية ناسفة من النوع الذي انفجر مراراً في قلب فلسطين الممسوخة إلى جغرافيا توراتية؛ أو ساعة تتدخل الأبدية في قرار من الكنيست، يعتبر القدس عاصمة أبدية موحدة لشعب اسرائيل.
وحين هندس مناحيم بيغين هذا القرار، توجّب أن تجري الهندسة اللاحقة على سطح الأرض وفي السجلّ التاريخي، وتوجّب على باطن الأرض أن يقذف بين حين وآخر حمم انتفاضات تاريخية فارقة، أكثر التهاباً وسخونة.
كاتب سوري
رسالة إلى نفسي قبل نهاية عام 2025
هل ستفوز امرأة بمنصب الأمين العام العاشر للأمم المتحدة
معضلة القدس المفتوحة: بواطن تاريخ وحجر
نصائح نفسية لتبدأ بها عامك الجديد 2026
طليقة أحمد الفيشاوي تنعى والدته
إعلان الطوارئ في لوس أنجلوس الأميركية خشية وقوع فيضانات خطيرة
إصابة رضيعة فلسطينية بهجوم مستوطنين في الضفة الغربية
معتمر يلقي بنفسه من المسجد الحرام والسديس يعلق .. فيديو مروع
قصف جوي جديد على مستودعات أسلحة ومخدرات في السويداء
تركيا توقف 115 مشتبهاً بداعش في حملة أمنية واسعة بإسطنبول
طريقة الحمل بتوأم بين الحقيقة والخرافة
القضاء على داعش .. مسؤولية جماعية
الطب الشرعي يكشف سبب وفاة شاب مفقود في الكرك
جماهير الأرجنتين تنحني للنشامى بعد نهائي كأس العرب
يوتيوب يعود للعمل بعد تعطله لآلاف المستخدمين
استيطان جديد في الضفة الغربية يفاقم الصراع
اعلان مقابلات صادر عن وزارة التنمية الاجتماعية - أسماء
حوارية في اليرموك بعنوان المدارس اللسانية المعاصرة
اعلان توظيف صادر عن صندوق المعونة الوطنية .. تفاصيل
انطلاق فعاليات أولمبياد اللغة الإنجليزية العالمي للجامعات 2025
تحذير .. أدوية يُمنع تناولها مع هذه الفواكه
ماسكات طبيعية لبشرة أكثر إشراقا
بث مباشر حفل افتتاح كأس أمم إفريقيا اليوم .. القنوات والتوقيت

