صحيفة السوسنة الأردنية

قال صاحبي :

إن لبعض الأماكن روحا كما تعلم .. لا تستطيع أن تجزم بذلك للوهلة الأولى ، ولكن حين تعتاد ارتيادها تشعر أن ارتباطا وثيقا بينك وبينها يبدأ في التكوّن .. ولهذا قال أبو تمام :

 

للحبيب الأول وليس للحبيب الثاني ذلك لأن الإرتباط الأول سابق وقديم عهد ولهذا أيضا تغنى الشعراء بالمنزل الأول والموطن الأول .. وقد تفننوا في وصف صباهم وتصوير الدروب التي كانوا يسلكونها وحتى نحن نتحسر على طفولتنا وعلى أيام أن كنا طلبة لا نحمل هما ولا مسؤولية من أي نوع كانت .. وهكذا بدأت علاقتي بهذا الركن من العالم حتى ألفته وألفني وأحببته وأحبّني .. وفي سفراتي الطويلة كان يؤرقني حتى إذا ما عدت إليه أحسست فعلا بأن العود أحمد وفي المرات التي كنت أختلي بنفسي فيه كنت لا أترددعن الحديث معه بصوت عال وكنت أبثه طبعا لواعج شوقي وما كنت ألاقيه في سفراتي ورحلاتي تلك . وكما يقولون كان كلّ شيء يبعث على الدفء والتفاؤل والمسرّة كان الحيّ الذي كنت فيه حيّا بمعنى الكلمة ، وكان الجيران جيرانا بكل ما تحمل هذه الكلمة من نبل ، وكانت المودّة مودّة خالصة وكان الحب حبا عفيفا بريئا وحتى نظرات الناس كانت بريئة .

 

وفي مثل هذا الوقت من كل عام كان الحي يتحد حتى ليصبح بيتا واحدا أليس شهر رمضان ؟ شهر الخير والبركة ، شهر الغفران ، شهر القرآن، شهر العبادة ، شهر الصوم ، شهر الرحمة ،شهر ليلة القدر . كانت كل هذه المعاني تتجسد في هذا الركن من العالم .

 

كلما نزلت الشارع في هذه الأيام أتصفح وجوه الناس فلا أراها إلاّ عابسة لاحظ معي يا صاحبي لم نكن في تلك الفترة نعرف العبوس والتقطيب كنا إذا لاحظنا فردا منا حزينا سليناه وواسيناه ولا نتركه أبدا فترد له روح الجماعة ويطمئن لوجودنا معه فيزايله همه..

 

وكلما نزلت إلى الشوارع في هذه الأيام صادفت هذا يصيح وهذا يلعن وذاك يردّ.. فما الذي حدث لهؤلاءومن آداب هذا الشهر الفضيل سعة الصدر والتجاوز عن الهفوات وقولك لمن يتحرش بك ( اللهم أني صائم ).

 

وأتفاجأ كلما نزلت إلى الشارع بأن الكل يسرع إلى الأسواق العامة والمركزية والحوانيت يبتاعون ما يحتاجونه وما لا يحتاجونه كما لو كان شهر رمضان الكريم مخصصا للإستهلاك الغذائي فقط .

 

طالعت صاحبي ببلاهة ، والذي أذكره انني هززت رأسي وكررت ذلك طويلا حتى بعد أن نهض وانصرف .