دخّل الماضي لتصويب المستقبل!

mainThumb

30-07-2017 02:33 PM

 من يتذكّر ليش فاليسا؟ العامل البولندي الذي قاد التظاهرات والإضرابات انطلاقاً من مدينة غدانسك البحريّة، ثمّ شارك في تأسيس نقابة «تضامن» المستقلّة وقادها. فاليسا، بالتحركات الجماهيرية التي وقف على رأسها في الثمانينيات، أسقط النظام الشيوعي في بلده وضرب المسمار الأول في نعش الإمبراطورية السوفييتية. حين بدأ مشروعه بدا للعالم أنه يحاول المستحيل، وأن حظه لن يكون أفضل من حظ الذين انتفضوا في هنغاريا عام 1956 أو في تشيكوسلوفاكيا عام 1968. ولكن العالم كان يتغير في اتجاهات كثيرة، وبالفعل انتصر فاليسا وكوفئ: في 1983 نال جائزة نوبل للسلام. بين 1990 و1995 تولّى رئاسة الجمهورية التي صارت ديمقراطية. بعد ذلك تقاعد، ولم يعد يُسمع له صوت إلا لماماً.

 

فاليسا، ابن الثلاثة والسبعين اليوم، ظهر مؤخراً في مدينته غدانسك، محوطاً بعشرات آلاف الشبان الذين سمعوا باسمه، ولكنهم لم يشاهدوا وجهه من قبل. خاطبهم طالباً منهم أن يدافعوا بما أوتوا من قوة عن فصل السلطات في بولندا، وأن يقاوموا محاولة السلطة السياسية التحكم في المحكمة الدستورية العليا وتعييناتها. قال لهم إن فصل السلطات أهم ما أنجزته نقابة «تضامن» حين أسقطت النظام الشيوعي. وهو، في هذا، لم يكن يبالغ: ذاك أن فصل السلطات وإنشاء مؤسسات مستقلة هما النقيض التام للنظام التوتاليتاري.
 
ما الذي أعاد فاليسا إلى الساحة؟
 
في 2015 وصل إلى السلطة في بولندا «حزب القانون والعدالة» الشعبوي. كان ذلك حلقة بارزة في سلسلة الانبعاث الشعبوي الذي تعدى أوروبا الوسطى إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ومن خلال رئيس الجمهورية «أندريه دودا»، الحزبي سابقاً وحليف الحزب حالياً، بدأت سياسة داخلية تنهض على محاور ستة متكاملة:
 
- السيطرة على الإعلام ومحاولة خنق المنابر الحرة.
 
- التحكّم في القضاء وإخضاعه التدريجي للسلطة السياسية.
 
- محاصرة منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية، الداخلية منها والخارجية على السواء.
 
- تقييد حرية التجمع ومناسباته العامة.
 
- التصعيد ضد الاتحاد الأوروبي بوصفه عدو الوطنية والمصالح البولندية.
 
- العداء للهجرة واللجوء وتشجيع أبشع التنميط العنصري بحق اللاجئين.
 
لكنْ قبل أسبوع حدثت نقلة كبرى إلى الأمام في الوجهة هذه. فمن دون أي اكتراث بالاعتراض الأوروبي والإدانات الدولية والمظاهرات الجماهيرية، صدّق مجلس الشيوخ، الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم، على قانون جديد يجيز تسريح القضاة في المحكمة العليا، باستثناء من اختارهم وزير العدل وصدّق رئيس الجمهورية على تعيينهم.
 
استقصاءات الرأي العام حسمت بوجود أكثرية شعبية كبرى تعارض هذا القانون. بولنديون كثيرون اعتبروه مجرد مقدمة لـ«موت الديمقراطية» في بولندا. دونالد تاسك، رئيس المجلس الأوروبي (الذي هو بالمناسبة رئيس حكومة بولندي سابق) لم يرَ بداً من اعتماد خطوات تصعيدية في مواجهة القرار المزمع فرضه. هكذا أنذر الاتحاد الأوروبي بولندا بأن تتراجع كما منحها مهلة تنتهي في سبتمبر المقبل كي تفعل، وإلا فإنها ستخسر حقوق التصويت في الاتحاد.
 
والحال أن الطريق التي يسلكها «دودا»، مثله في ذلك مثل زميله الهنغاري فيكتور أوربان، تهدد بإحلال أنظمة سلطوية محل الأنظمة الديمقراطية في أوروبا الوسطى. وهذا يعني -في ما يعنيه- احتمال الرجوع إلى الشيوعية من دون حزبها وإيديولوجيتها. هذا ما أعاد ليش فاليسا إلى الساحة وإلى الحشد، كما أعاد إليه شباباً وحيوية كادت الذاكرة تطويهما.
 
صحيح أن التقسيم المألوف لأطوار الزمن غالباً ما يضع الماضي في مواجهة المستقبل. لكن تعميماً كهذا قد يكون تبسيطياً جداً، بل خاطئاً جداً. ففي أحيان كثيرة يحضر الماضي لتصويب المستقبل، وحضور فاليسا في غدانسك، قبل أيّام قليلة، يندرج في الإطار هذا.
 
* نقلا عن "الاتحاد"


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد