هل حان الموسم المصري لجني الثمار الروسية؟ - محمد أبوالفضل

mainThumb

16-10-2018 03:20 PM

 يعتبر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من أكثر القيادات العربية براغماتية، فكلما مال ناحية دولة معيّنة، عاد سريعا وضبط الدفة مع الجهة المقابلة لها، لأن التجارب أكدت تراجع الأدبيات التي ترفع من قيمة العلاقات الجدية، وكما توجد خلافات توجد أيضا مصالح من الواجب تعظيمها مع هذا الطرف أو ذاك.

 
ذكر دبلوماسي رفيع شيئا عن طبيعة التوازنات التي تقيمها مصر مع الأطراف الفاعلة في الأزمة الليبية، وقال إن القاهرة تحتفظ بعلاقات جيّدة مع كل من فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة ومبعوث الأمم المتحدة وغالبية القوى الليبية المتنافرة، من خليفة حفترة وحتى فايز السراج، ولم تسع إلى الانحياز صراحة إلى طرف على حساب آخر، ووسط التوتر بين روما وباريس تمكنت من توطيد علاقتها مع الجانبين، وأصبحت إحدى أهم الدوائر المقرّبة من واشنطن في الأزمة الليبية.
 
ما قاله الدبلوماسي يمكن أن يكون صحيحا أيضا في أزمات أخرى مثل سوريا، حيث تحتفظ القاهرة بعلاقات جيّدة مع الكثير من الأطراف المتصارعة، ما مكنها من الانفتاح على جهات متناقضة، وأتاح لها فرصة لرعاية عدد من اتفاقيات الهدن التي جرى توقيعها في مناطق مختلفة من سوريا.
 
ساهم التوازن النسبي في السياسة المصرية وعدم الانجرار وراء قوة أو جهة بعينها، في أن تحتفظ القاهرة بعلاقات غير متوترة، أو منضبطة إلى حد كبير، مع الدول التي كانت تحرّض عليها في وقت من الأوقات، ومن يراجع قائمة الخصوم الحقيقيين سيجد من السهولة أن تستعيد القاهرة العلاقات مع أي منهم، فهي لم تنخرط في عداوة واضحة معهم.
 
في خضم الخلاف مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، واجهت القاهرة شراسته السياسية وطاقمه الدبلوماسي بقدر من الهدوء. واستطاعت تفويت السيناريوهات القاتمة التي جرى تجهيزها من باب الدفاع عن النفس وليس من باب العداء للشعب الأميركي.
 
ساعد صعود الرئيس دونالد ترامب في بناء علاقة أفضل، والدخول في مرحلة متقدمة من الحوار الاستراتيجي، الأمر الذي عكسه لقاء السيسي مع ترامب، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك نهاية الشهر الماضي. اعتقد البعض من المتابعين أن التطور الحاصل في العلاقات بين القاهرة وواشنطن، وأدى إلى تجاوز عثرات دقيقة سابقة، حسم خيار مصر الاستراتيجي بالابتعاد قليلا عن موسكو، في ظل بطء الشروع في تنفيذ مفاعل الضبعة على البحر المتوسط، وتعثر استئناف السياحة الروسية لمصر، على الرغم من عودة الطيران بين البلدين.
 
علاوة على استمرار الهواجس التي تراود موسكو بشأن الدور الإقليمي لمصر في مجال الغاز، وترى دول غربية، في مقدمتها الولايات المتحدة، أن التطورات المصرية على هذا المستوى يمكن أن تؤثر سلبا على مكانة روسيا كمصدر أساسي للغاز للعديد من الدول الأوروبية.
 
لكن، عندما عاد السيسي من نيويورك، وبعد لقاء مثمر للغاية مع ترامب، أُعلن في القاهرة عن زيارة يقوم بها إلى موسكو في 17 أكتوبر الجاري، الأمر الذي فهمته دوائر كثيرة على أنه إعادة لمنهج التوازن الذي يتبعه الرئيس المصري، وجعله قريبا من قوى تبدو متنازعة، وهي سياسة تتبعها الدول التي تتطلع إلى إعادة بناء علاقاتها والحفاظ على مصالحها من دون الدخول في معارك جانبية تجعلها تدفع أثمانا باهظة.
 
يستند هذا التغيّر على التطورات اللافتة في النظامين الإقليمي والدولي، والتي تسمح بتكوين شبكات مختلفة من العلاقات مع قوى متباينة، لأن السيولة الطاغية في غالبية الصراعات تجعل كل دولة حريصة على عدم التفريط في أي من أوراق القوة والضغط، مهما كان حجمها، فقد يأتي اليوم وتصبح لها تأثيرات عميقة.
 
تزداد المسألة أهمية عندما تتعلق بارتفاع درجة النشاط والفعالية، فالقاهرة تدرك أن موسكو قوة لها باع في حسم بعض التوترات الحيوية اليوم، وساعدها التدخل في الأزمة السورية على تعزيز مكانتها الإقليمية، ولا تزال لها تطلعات أكبر من ذلك، في ليبيا مثلا، كما أن روسيا ترى في مصر حليفا مهمّا، حتى لو بدت على علاقة جيّدة مع الولايات المتحدة.
 
تتكون اللعبة التي تديرها القاهرة مع موسكو، والعكس، من مفردات معروفة، كل طرف أصبح يتفهم دوافع الآخر وعلى استعداد للتكيّف معه، بمعنى أن اقتراب مصر الزائد من الولايات المتحدة لن تكون له آثار سلبية على علاقتها بموسكو.
 
وترى الأخيرة أن لديها قدرة على تحقيق مزايا كبيرة بما تملكه من أوراق للضغط الضمني والصريح على القاهرة، مثل بناء مفاعل الضبعة وعودة السياحة ومصير الغاز في شرق المتوسط وإطفاء الحرائق في بعض الأزمات الإقليمية، ما جعل مصر يصعب عليها التفكير بخلاف منهجها الأصيل، والتضحية بموسكو، بل تسعى إلى تطوير العلاقات معها.
 
لم تكن موسكو أقل اهتماما بالقاهرة، وتدرك أن هناك قواسم مشتركة من الصعوبة خسارتها، ولعل المقال الذي كتبه سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي في جريدة الأهرام الحكومية، السبت، بعنوان “روسيا ومصر صداقة وتعاون عبر الزمن”، له الكثير من المعاني السياسية.
 
جاء نشر المقال في توقيت بالغ الأهمية، ما يؤكد أن زيارة السيسي، الأربعاء المقبل، ستكون لها نتائج إيجابية، ويمكن أن تخرج العلاقات من باب الهواجس التي سكنتها السنوات الماضية إلى باب الاستقرار الذي انتظرته طويلا.
 
سبقت هذا المقال علامة مهمّة صدرت من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تشير إلى البعد الحيوي لهذه الزيارة أيضا، حيث قال، خلال زيارته إلى مزارع شركة راسفيت في إقليم ستافروبول جنوب غرب روسيا “سأستقبل قريبا الرئيس المصري، دعونا نقدم له تفاحكم”، ورد مراد غالييف، مدير الشركة بالقول “سنعطيكم كلا من التفاح والغرسة كي تقدمها لهم (للسيسي ووفده)، سنساعدكم في هذا الاتجاه”.
 
ومعروف في مصر أن التفاح “أميركاني” ولم يسمع المصريون عن شهرة يملكها التفاح الروسي من قبل، وهي إشارة توحي “إذا كانت واشنطن تمنح القاهرة تفاحا فقط، فنحن سنمنحها أصل التفاح”، أي الغرس.
 
وتعهد بوتين بأنه سيقدم كل “هدايا ستافروبول” لنظيره المصري بكل سرور، فيما نصح ديمتري مدفيدف، رئيس الوزراء الروسي، بأن يطلع كذلك السعودية والإمارات على نجاحات المزارعين الروس، قائلا “الحمد لله علاقاتنا معهما حسنة للغاية”.
 
تنطوي هذه النوعية من العبارات الرقيقة على مجموعة من المضامين السياسية العميقة، في مقدمتها أن العلاقات بين القاهرة وموسكو نضجت تماما، وحان وقت جني الثمار، والقضايا التي ظلت عالقة آن لها من وسيلة للتفاهم والحل، والاستناد إلى الأبعاد التاريخية المتينة سيكون إحدى الركائز التي تنطلق منها العلاقات خلال المرحلة المقبلة.
 
تؤكد إشارة ميدفيدف إلى الربط بين مصر وكل من السعودية والإمارات في مجال العلاقات الجيدة، على أن موسكو مقبلة على مرحلة جديدة مع الدول الثلاث، المعروف أنها تمتلك علاقات وثيقة مع واشنطن، ما يعزز الانفتاح الذي تقوم به هذه الدول على جهات مختلفة، ويضاعف من المكاسب المشتركة التي يمكن الحصول عليها.
 
يدرك السيسي أن رهن علاقاته بالإدارة الأميركية الحالية وبترامب تحديدا، سيواجه بمشكلات سياسية كبيرة، إذا أدت الضغوط التي يتعرض لها إلى أزمات مستعصية ربما تفضي إلى إقالته من منصبه، وصعود نجم الديمقراطيين مرة أخرى، وبالتالي من الضروري ألا يكون الانفتاح على واشنطن على حساب موسكو أو أي من القوى الصاعدة في أوروبا.
 
لذلك ستحدد نتائج زيارة السيسي عمق العلاقة مع موسكو، ولن تكون كافية لتأكيد انحياز القاهرة لها على حساب أي من القوى الأخرى، لكن تداعياتها ستكشف إلى أي مدى يمكن لمصر أن تحافظ على شعرة معاوية في توازن العلاقات مع كل من روسيا والولايات المتحدة.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد