مصير أوكرانيا والخيار المستحيل !

mainThumb

29-01-2022 06:27 PM

الأزمة الأوكرانية تتصدر اليوم أخبار العالم؛ لأنها تجمع في أتونها بين الدول التي تتنافس على قطبية العالم فيما تعد الأكثر تأثيراً فيه، وذات التجارب المسبقة في المواجهات المدمرة في حربين عالميتين وأخرى باردة ما زلنا نعاني من تبعاتها رغم انتهائها المعلن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وحرب ثالثة محتملة قد تتجدد بين أمريكا وغرب أوروبا من جهة، وروسيا والصين ومن يدور في فلكهما من جهة أخرى.. ويبدو أنها باتت وشيكة وفق بيانات ما يدور على أرض الواقع وتراكم أسبابها في بحر الصين وشرق أوروبا والشرق الأوسط.. والأزمة الأوكرانية خير مثال على ذلك، وهي محور حديثنا.

فإن كثيراً من القراءات الوصفية للمشهد الأوكراني وضعت الأزمة في إطار الوقائع اليومية وتراكماتها غافلة عن مؤشرات النوايا الحقيقية.. فأطرافها قوى عظمى لديها من الأسلحة النووية ما يدمر الأرض ومن عليها لمرات عديدة وإن بدا ذلك خياراً مستحيلاً. 

وبالعودة إلى نوايا روسيا فإن احتلالها لأوكرانيا يبدو جادة وفق السفير الأمريكي في موسكو، بدلالة الحشود الروسية العسكرية على الحدود الأوكرانية. أضف إلى ذلك دعم موسكو للمعارضة الأوكرانية ومحاولتها استبدال الحكومة الأوكرانية الحالية بإدارة موالية لها، تضم في سياقها النائب الأوكراني السابق يفغيني موراييف المرشح الأكثر احتمالاً لرئاسة البلاد، وفق اتهامات الخارجية البريطانية التي رفضتها موسكو.

أضف إلى ذلك قضم روسيا منطقة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014.

ناهيك عن استمرار استفحال الأزمة وتفاقمها في ظل المناورات العسكرية الروسية التي سبقتها مناورات عسكرية أمريكية في البحر الأسود وصولاً إلى ما تجريه روسيا من مناورات في كل أماكن تواجدها في العالم وبخاصة قبالة السواحل الإيرلندية، وهذا يعطي مؤشرات ورسائل خطيرة إلى بريطانيا الداعمة للموقف الأمريكي.

بينما جاء الرد الأمريكي وحلفائه قوياً على هذه الحشودات من خلال تقديم دعم إعلامي وسياسي وعسكري أمريكي وغربي مفتوح لأوكرانيا، تعززها دعوات لتنفيذ عقوبات اقتصادية على موسكو، بعيداً عن التدخل العسكري المباشر في الأزمة الأوكرانية كون "كييف" لم تستوف شروط قبول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، واكتفاء الغرب بالحديث عن مواجهات محتملة بين أوكرانيا وروسيا في حدود ضيقة قد تكبد روسيا خسائر كبيرة من جراء تطبيق حصار قاسي عليها،. ومن ثم ربطها باتفاقيات مشروطة. 

لقد تورط جميع الأطراف في الأزمة الأوكرانية المتفاقمة، ولا يبدو أن أحداً يستطيع الفكاك من تداعياتها التي ظلت تتصاعد رغم أن روسيا حصرت مطالبها أخيراً بعدم انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي مطلقاً. ووقف توسع التحالف العسكري الغربي شرقاً. وأن يكون قبول هذين المطلبين موثقاً كتابياً كمرجعية قانونية. وهو ما يرفضه الخصوم لاستحالته نسبياً.

وإزاء التلويح الغربي بفرض عقوبات على موسكو فقد قال وزير خارجية روسيا لافروف بأنهم أوضحوا للأمريكيين أن تلك الحزمة المذكورة التي تتضمن إغلاق الأنظمة المصرفية والاقتصادية التي يسيطر عليها الغرب في روسيا ستكون بمثابة إعلان قطع للعلاقات الأمريكية مع روسيا. 

وأوضحت واشنطن علنا أن بعض هذه المطالب غير قابلة للتحقيق واعتبرتها دول الاتحاد الأوروبي صعبة لأن دخول الاتحاد في الأصل يخضع لشروط داخلية، ولا يمنع الدول الأوربية الأخرى التي تستوفيها من الانضمام إليه وإلا اعتبرت ذلك تدخلاً في شؤون الاتحاد.

وتدرك موسكو أنها أقحمت نفسها في أزمة ستحدد مصير روسيا ومستقبل بوتين السياسي نفسه، ولن تخرج موسكو منها بسهولة حتى لو أدى الأمر إلى مواجهة خصومها على الأرض الأوكرانية.

فروسيا تخطط لحرب خاطفة من شأنها أن تربك خصومها للضغط باتجاه مناورات سياسية ذات مكاسب مضمونة لها؛ ولكن شبح العقوبات الغربية قد يجعلها تكتفي بالمطالب المطروحة أعلاه. مع أن فرصتها في توسيع دائرة الصراع ممكنة من خلال استقطاب كل من الصين وإيران؛ للوقوف في تحالف ثلاثي بوجه الغرب وأمريكا، ولعل انكفاء موسكو عن اتخاذ مثل هذه الخطوة الجاهزة يعود إلى تحجيم الأزمة بعد الضربة الخاطفة المحتملة ليسهل طيها بأقل الأضرار.

أيضاً لسحب البساط من تحت ما تخبئه أمريكا من خطوات تتوقعها موسكو على نحو ما ورد في تقارير استخبارية روسية، تقول بأن أمريكيا تسعى لزجّ روسيا في حرب استنزاف داخل أوكرانيا المدعومة بأحدث الأسلحة الأمريكية والغربية، بغية ضرب روسيا في الخاصرة من خلال إغراق القرم بمقاتلي داعش الذين هربوا مؤخراً من سجون "قوات سوريا الديموقراطية" التي تحتجز فيها ثلاثة آلاف مقاتل من تنظيم داعش في بلدة الباغوز شرقي سوريا.. وهذا وارد الاحتمال.. فأمريكا تدرك أهمية هؤلاء لخبرتهم في مقاتلة الروس ميدانياً في سوريا. وهي قوات انبثقت من تنظيم القاعدة الذي ساهم في إخراج القوات السوفيتية من أفغانستان قبل أكثر من عقدين.

ولقطع طريق روسيا عن استقطاب إيران فقد طلبت أمريكا مؤخراً -بشكل مفاجئ- من طهران الجلوس على طاولة المفاوضات مباشرة بشأن الملف النووي.. ربما في إطار لعبة الأرنب والجزرة، بغية منع إي دور إيراني مساند لروسيا في أتون المواجهات المحتملة.

وتحرص أمريكا على نجاح مهمتها في الأزمة الأوكرانية ولو سلمياً؛ وذلك بمنع روسيا من دخول أوكرانيا من خلال توقيع موسكو على وثيقة تمنعها أيضاً من تطوير علاقاتها الاستراتيجية مع الصين التي تمثل العدو الأخطر للطموحات الأمريكية لضمان مكانتها مستقبلاً. وبالتالي تقطع الطريق على الصين باتجاه تايوان. 

ورغم أن الناتو لن يتدخل عسكرياً للدفاع عن أوكرانيا لأنها ليست عضواً في قواته؛ لكن ارتدادات هذه الحرب المحتملة على غرب أوروبا ستكون وخيمة وخسائره المتوقعة باهظة الثمن؛ لأن الحرب المفترضة ستقع في قلب القارة العجوز بعيداً عن الشواطئ الأمريكية الشرقية؛ وعليه فإن الجميع سيخسر كثيراً وأقلهم أمريكا. 

ولا ننسى الموقف الأوروبي المنقسم على نفسه بسبب المصالح المتشابكة مع روسيا. وكدأبها في السياسة الخارجية فإن بريطانيا تتوافق حساباتها دائماً مع الأمريكيين من باب التبعية. بينما فرنسا التي أفشلت أمريكا صفقة الغواصات الفرنسية مع أستراليا فإنها أكثر استقلالاً في قراراتها عن أمريكا.. وقناة التواصل بين بوتين وماكرون ما لبثت مفتوحة. 

أما ألمانيا فقد تبادر إلى دور توافقي يكون من شأنه قطع الطريق عن أية مواجهات عسكرية محتملة بين روسيا وأوكرانيا كونها ذات تأثير دولي فاعل، والأكثر على صعيد أوروبي، والدولة الأوربية الأقوى اقتصادياً .

ورغم وجود تضارب في المواقف الألمانية بشأن الأزمة الأوكرانية إلا أن مصالح برلين مع روسيا غلّابة، نظرا للعلاقات الاقتصادية المتجذرة القوية التي تجمع البلدين. ويكفي معرفة أن ألمانيا تستورد من روسيا 40 بالمائة من حاجتها من النفط و50 بالمائة من الغاز الطبيعي.

لذلك حذر رئيس وزراء ولاية بايرن، ماركوس زودر، في تصريحات لصحيفة "فرانكفورتر تسايتونغ" من أن التهديدات وفرض عقوبات أقوى ضد روسيا "لا يمكن أن تكون وحدها الحل". فالعقوبات "منذ مدة طويلة غير مجدية" وفرض عقوبات جديدة "سيضرنا نحن أيضا بنفس القدر".

وعليه فقد نشر عدد من الدبلوماسيين والعسكريين السابقين ممن لديهم خبرة في الشأن الروسي، نداء تحت عنوان "الخروج من دوامة التصعيد" 

مطالبين ب"الاعتراف بالمصالح الأمنية للطرفين".

فهل يحظى الأمن الأوروبي بفرصة أمان تنعم به القارة العجوز بمنع اشتعال حرب ضروس لا تبقي ولا تذر وتحد من انتشارها أو انعكاساتها السلبية على صعيد عالمي.

هل يفعلها العقلاء! أم أن خيارات الشيطان الذي يعربد في التفاصيل ما لبثت سيدة الموقف.

إلى أين تأخذنا الرهانات دون أن نقحم الخيار النووي في أزمة ما لبثت في بدايتها بين قوًى لديها القدرة العسكرية على إبادة البشرية بغمضة عين! الله يستر!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد