رحلة الاغتراب ومواسم الموت

mainThumb

29-09-2009 12:00 AM

سليمان أبو شلذم

عندما تضيق الدنيا بالعبد في بلاده يبحث عن الرزق في غيرها، وهذا ليس عيبا فقد حدث بشكل فردي وجماعي عبر التاريخ حتى توزع الناس في نواحي الأرض بحثا عن الرزق. ولكن في المقابل يبقى دائما الحنين للوطن ساكنا في النفس ولا يمكن أن تنتزعه كل بقاع الأرض منها ولذلك تحصل مواسم الهجرة العكسية نحو الوطن باستمرار.
ما أن يحل الصيف وتشتعل الأرض تحت الأقدام وترسل السماء شواظها وتهب الريح السموم لاهبة ويصبح الحنين إلى الوطن اقوي العواطف حتى يبدأ المغترب بجمع متاعه ويحزم حقائبه استعدادا ليوم السفر إلى الوطن بحثا عن وجه أمه وحنينا إلى أيام الصبا واللهو واسترجاعا لذكريات الشباب وأيام ولت أحداثها وبقيت ذكراها عالقة في الخيال تأبى أن تفارقه. ومع الاستعدادات للسفر يبدأ استفسار الأولاد صغارهم وكبارهم عن يوم السفر وموعده وعن الطريق الذي سوف يسلكه الوالد وعن رفقاء السفر وكم طول المسافة وكم من الوقت سيحتاجون للوصول إلى الوطن وعن الاستراحات التي سيتوقفون فيها والفنادق التي سينامون فيها. ويبدأ الصغير بالاستفسار عن مصير دراجته وهل سيأخذها الوالد معه في السفر إلى الوطن أم أن الفراغ في السيارة لا يسمح بأخذها ويبدأ الكبير بالاتصال مع أصدقاءه في الوطن ليخبرهم عن موعد وصولهم ويخطط وإياهم لليالي الصيف والسهرات والفرحة التي لا تنتهي إلا برحلة العودة.

ويأتي يوم السفر وينطلق الوالد التعب السهران في الليالي التي سبقت يسبقه شوقه وترافقه فرحة أولاده ودعوات الأم التي أخبرها بموعد وصوله. وتمضي السيارة مسرعة تركض خلف السراب محملة بالهدايا تعلوها دراجة الصغير متنقلة من محطة إلى أخرى وينام الأطفال المشتاقون إلى سرعة الوصول لقتل الوقت ويشرب الوالد القهوة المرة لتساعده على قتل النعاس الذي يدب في عينيه وهو يعد نفسه بالنوم في المحطة القادمة وما أن يصلها حتى يتناسى وعده لنفسه وينطق مع رحلة الشوق من جديد آملا أن يكون النعاس زائرا قد اكتفي من زيارته وغادر جفنيه إلى غير رجعة.

وتمر الساعات ويقصر طول الطريق ويقترب الحلم من الحقيقة ولكن الزائر ثقيل الظل يعود في لحظة لا يرغب صاحب البيت فيها بوجوده وينشط في العيون بينما القدرة على المقاومة تضعف وتكاد تموت. وتبدأ الحرب بين الإرادة والنعاس وكل منهما يريد إبعاد الآخر ليسكن تحت الجفون ويلجأ السائق إلى كل وسائل الدفاع فيزيد مقدار القهوة المرة ويستمع إلى الراديو ويوقظ الأولاد والزوجة من نومهم ويتكلم معهم في ما يرغب وما لا يرغب ولكن الضيف ثقيل الظل يأبى الرحيل ويتربع داخل الجفن ولا يريد الخروج منه أبدا.

وفي لحظات تموت الإرادة وينطفئ الحلم وتطير دراجة الصغير من فوق السيارة ويرقد الكبير بجانب هاتفه الذي أرسل به رسائل الفرحة إلى أصدقائه وتتلطخ البراءة الطفولية بالألم وتتبخر الأحلام مع السراب. فبين مغادر إلى ملكوت الله وبين ناج كسيح وبين جريح مكلوم يكون الفرق لحظة نعاس ماتت فيها إرادة الصمود أمام حاجة الإنسان الطبيعية للنوم وعناده الذي لا ينتهي والذي يغذيه الشوق القاتل إلى تراب الوطن وحضنه الدافئ. إنها رحلة الاغتراب والموت التي يقابلها أبناؤنا العاملون في مشارق الأرض ومغاربها في كل عام عند عودتهم إلى أهليهم في بداية ونهاية كل إجازة صيف.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد