مفاتن هيفاء أم مآثر العلماء!؟

mainThumb

10-10-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان

في صبيحة يوم السبت الذي صادف الثالث من هذا الشهر، احتفل في مؤسسة شومان في عمان بتوزيع جوائز عبد الحميد شومان للباحثين الشبان للدورة الأخيرة للجائزة؛ تقديراً لنخبة من العلماء العرب الشباب على ما أحرزوه من إنجازات متميزة يعتد بها حقاً في عدد من الحقول العلمية والاجتماعية.

حتى الآن ليس هناك ما هو مستغرب أو غير عادي في الخبر، لكن الأمر غير العادي والجدير بإثارة الاستهجان بل الغضب أن يمر حدث بمثل هذه الأهمية، دون أن يحظى إلا باهتمام شكلي عارض لا يكاد يذكر من جانب وسائل الإعلام الأردنية والعربية، المقروءة والمسموعة والمرئية، وما يؤكد صدق مزاعمي، أن الأغلبية الساحقة من قراء هذا المقال لم تسمع فيما أجزم بذلك الحدث، وربما لم تسمع بتلك الجائزة أصلاً، التي مضى على إطلاقها سبع عشرة سنة كاملة!

التلفزيون الأردني بالمناسبة كان هناك، إلا أنه لم يتكرم إلا بإفراد ما لا يزيد عن دقائق قليلة في نشرات أخباره الباهتة لعرض وقائع التكريم، وكأن ذلك من باب رفع العتب، أو مجاملة الشخصية المرموقة التي رعت حفل تسليم الجوائز، مع أنه خصص في النشرات الإخبارية نفسها وقتاً طويلاً لتغطية أخبار سياسية ورياضية فارغة لن تفيد أمتنا المنكوبة في قليل أو كثير!

لمن لا يعلم، تعد جائزة شومان للباحثين الشبان واحدة من أهم الجوائز العربية على الإطلاق، والجائزة التي لا تمنح في العادة إلا لمبدعين واعدين أسهموا بحق في إثراء المشهد الفكري أو العلمي العربي، تؤكد أن أمتنا المتعبة ما تزال قادرة على إنجاب العلماء والمفكرين، هؤلاء الذين يستحقون كل الدعم والتقدير والإشادة والحفاوة والتحفيز الجدي المتواصل، معنوياً ومادياً، على المزيد من الإبداع، وليس الاكتفاء بمنحهم جوائز نقدية متواضعة، لا تتجاوز بمجموعها بعض ما قد تحصل عليه راقصة أو مغنية في ليلة واحدة من ليالي ألف ليلة وليلة، التي تضج بها الحفلات الماجنة في قصور وفنادق السفه العربي من المحيط إلى الخليج!

أحد أصدقائي المنتمين إلى الجانب المغربي من وطننا العربي، الذي حظي بشرف نيل الجائزة لهذه الدورة نظير إبداعاته الفكرية، نظر إلى "الشيك" الذي كان قد تسلمه مصحوباً بدرع الجائزة، وأخبرني ببسمة موجوعة بأن المبلغ المرقوم لن يسد إلا قرابة نصف ديونه المتراكمة!

ذات زمان بعيد في تاريخنا الإسلامي الزاهر، كان الكتاب يقيّم بوزنه ذهباً، وكان العلماء يتبوأون بحق المكانة الرفيعة الجديرة بهم كورثة للأنبياء. أما اليوم، فلا يستبعد أن يموت علماؤنا والإهمال يلفهم والديون تحاصرهم، دون أن يدري برحيلهم إلا بعض الأقارب والأصدقاء، وبعض مندوبي الصفحات الثقافية في الصحف، الذين يبحثون عن أي خبر لسد الفراغات في صفحاتهم المنسية!

في يوم من الأيام أثناء عملي في الجامعة الأردنية، رأيت العلامة الكبير الدكتور إحسان عباس رحمه الله يمشي متكئاً على عصاه باتجاه كلية الآداب، ولا أدري لم?Z خطرت لي وقتها فكرة غريبة سارعت إلى تنفيذها على الفور؛ إذ توجهت إلى حلقة ضمت عدداً من الطلبة الجالسين أمام مبنى الكلية يلهون ويلعبون، لأسألهم فيما إذا كان أحدهم يعرف هوية ذلك الشيخ الذي مرّ من أمامهم قبل برهة. تبادل الطلبة نظرات الحيرة، ثم لم يحر معظمهم جواباً، وإن كان بعضهم قد قال بأنه لم يتنبه من الأساس لمرور الرجل، وهذا كان شأن الطلبة في الحلقات الثانية والثالثة والرابعة التي قصدتها لطرح السؤال نفسه!

إذن فطلبة الجامعة، والأرجح أن معظمهم من طلبة كلية الآداب التي يعد الأستاذ إحسان عباس واحداً من أعلامها، بل وأعلام الأدب العربي برمته، لا يعرفون العلامة الكبير، فكيف لنا أن نتوقع من رجل الشارع أن يعرفه أو يعرف إدوارد سعيد أو هشام شرابي أو عبد الوهاب المسيري أو غيرهم من القامات الشامخة في عالم الفكر العربي، بل لماذا علينا أن نشطح بأفكارنا من الأصل ونتوقع شيئاً خيالياً بعيد الاحتمال، ما دمنا نعرف أن وسائل إعلامنا العتيدة تنشغل وتشغل الناس كل الوقت في متابعة أخبار تافهة أو ضالة أو مضلة، تتعلق إما بالمتطفلين على السياسة من الأفاقين والثقلاء، أو بالدخلاء على الفن من المفسدين والرقعاء، أو بأهل الرياضة الذين يتقافزون كالسعادين، وهذا في أحسن الأحوال!؟ ليعذرني عشاق الرياضة، ولكني لا أملك إلا أن أنظر إلى الرياضة في بعض جوانبها كإحدى التعبيرات الصارخة عن تفاهة هذا العالم ووضاعته، وذلك عندما أسمع أن لاعباً يجري خلف كرة يمكن أن يحصل على عشرات الملايين من الدولارات كل عام لقاء الحركات البهلوانية التي يؤديها بقدميه، بينما يموت ملايين الأطفال حول العالم كل سنة لأنهم لا يجدون كسرة خبز يقتاتون بها أو رشفة ماء يرتشفونها!

وعلى الرغم من أن الوزر فيما يتعلق بجريمة تجهيل الأفراد وتسطيح اهتماماتهم وتضحيل وعيهم يتوزع على مؤسسات التنشئة الاجتماعية كلها، من الأسرة إلى المدرسة إلى الجامعة إلى دور العبادة إلى مؤسسات المجتمع المدني...الخ، إلا أن الجزء الأكبر من اللوم ينصب على رأس وسائل الإعلام في المقام الأول، وذلك للدور الخطير الذي تلعبه على صعيد إفساد أذواق الناس وتشويه بصائرهم بتعريضهم المتواصل لبرامج وأخبار ومواضيع هابطة ساقطة، حتى غدا مثل ذلك الركام من الهراء بفعل كثافته الخانقة شيئاً عادياً مستساغاً، بل ومطلوباً من جانب أغلب الناس، إلا من رحم ربي!

أحياناً، ومن يكتب في الشأن العام يمكنه أن يفهم تماماً ما الذي أعنيه، لا يملك المرء إلا أن يصاب بإحباط ثقيل لا يستبعد أن ينتهي مع التكرار والوقت إلى اكتئاب مقيم مزمن، وذلك عندما يفجع بأن مقالة له كتبها بروحه المشتعلة لم يتعطف بقراءتها أكثر من مائة شخص من زوار إحدى المواقع الإلكترونية التي تفضلت بنشر تلك المقالة، بينما يحظى خبر تافه عن راقصة متهتكة باهتمام آلاف المتابعين للموقع نفسه، وكأن أغلبية الناس غدوا بفعل التغذية الإعلامية الرخيصة مدفوعين بلا وعي أو إرادة إلى البحث عما يتحرش بشبقهم الجنسي المكبوت!

فيما لا بد منه، على وسائل الإعلام أن ترتقي بأخلاق الناس وترقى بأذواقهم، وأن تحرص على ممارسة دورها الأخلاقي والتوعوي النبيل المفترض، فلا تكتفي بتبني موقفا يزعم الحياد، يجعلها تقدم للناس حزمة واسعة من الأخبار والمواد التي قد لا يخلو كثير منها مما يصب في مستنقع الابتذال وتثوير الغرائز، تاركة لهم حرية الاختيار، وكأن دورها ينتهي عند ذلك الحد، وكأن الناس يملكون دائماً من الوعي ما يكفي لتمكينهم من اختيار ما ينفعهم، وهذا حتماً ليس بالزعم الصحيح!

في زماننا الرديء بـأهله هذا، الذي اجتاحته قيم الفساد والانحطاط وانصراف الناس عن جلائل الأمور إلى سفاسفها، ل?Zيس من الصعب بتاتاً أن نتنبأ بأن صورة مغرية لغانية من قبيل هيفاء وهبي مثلاً، مروّسة بعنوان قصير مثير، أقدر بآلاف المرات على جذب متابعة معظم الناس من كل علماء الدنيا وأخبارهم وكتبهم، حتى وإن كان ذلك الانجذاب من باب الفضول أو الاستجابة لبواعث جنسية غامضة، أو حتى من باب الرغبة في الانتقاد! فهل علينا أن ننجرف ونحن نعي ذلك خلف ترويج ما يستقطب أنظار الناس بغض النظر عن مدى أخلاقيته، ونشجعهم على أن ينقادوا للغرائز البدائية الكامنة فيهم، التي تجعلهم يتملون طويلاً في مثل تلك الصورة وما يرافقها من أخبار بذرائع واهية كاذبة، أم أن علينا أن نحمي أبصارهم وعقولهم وقلوبهم بألا نعرض أمامها إلا كل ما يسهم في تهذيبها وتثقيفها والسموّ بها!؟ تساؤل، بل نداء، مشروع نوجهه إلى وسائل إعلامنا العربية الموقرة، فهل من مجيب!؟

وفي الختام، أجد أن من واجبي أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى ذائعة الصيت هيفاء، فمجرد ورود اسمها الرنان في عنوان مقالتي المسكينة سيضمن لها فيما أرجح الكثير من القراء، فيا للبؤس!

sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد