قصة رحيل والدي .. وسجادة الصلاة .. !!

mainThumb

15-06-2009 12:00 AM

م . سالم أحمد عكور

في السادس عشر من أيام حزيران .. وفي وقت العصر ومع صوت الأذان .. جائنا الخبر كما البركان .. وصعق الفؤاد برحيل جذر البنيان .. واكتحل النهار بظلمةِ الأحزان .. لا نجمٌ يسطع ، ولا بدرٌ يشُق بنوره ظلمة المكان .. فأظلم على نور القلب الذي كان .. ود?Zمّدم?Z الجِفن وأدّمع?Z العينان .. و توقف الزمن عن الدوران .. وارتحل الج?Zس?Zد لأعز إنسان .. من دار الدُنيا إلى دارِ الجِنان .. والروح تسرح هائمة في كل مكان وزمان .. !!
ففي ذاك اليوم الذي امتلأت جنباته برائحة الأحزان .. كانت قصة رحيل ذاك الأب الذي كنا صديقان .. ذي القلب الذي فاض بما طاب?Z من العطف والحنان .. وجادّ بما جادّ عليه الرب الرحمان .. من طيبٍ ومحبةٍ بين الناس ، كان يؤشر إليها بالبنان .. والتي لنّ تنسى ، مهما كبر حجم النسيان .. فذكراه أكبر من أن تكون كسرابٍ غرّرّ بتائهٍ ضمئآن .. !!
فقصة رحيل والدي وتلك السجادة التي نلجأ إليها وقت العبادةِ وطلباً للغفران .. كقصص الذين منّ الله عليهم بفطرة الدين والإيمان .. وبأميّتهم كانوا تهجئةً يقرأون حروف القرآن .. وبالفطرةِ قرأوا مبادئ الدين بكل إمعان .. وإيمانٌ بيومِ رحيلٍ قادم مهما علا شأن البنيّان .. عملٌ وفضيلةٌ وإحسانٌ بإحسان .. احتسبت لهم عند الله رب الكون ورب الثقلان ..!!
ففي ذات يوم الرحيل ، لم يتوانى والدي كعادته بتبرئة الذمّة لكلِ ديّان .. بصورةٍ لم أعهدها إلاّ لجدي لأبي " الذي عمّر نحو مئة وعشرون وعامان .. حين زار أبناءه الخمس و بنتان .. في غضون أيامٍ لا بل يومان .. ليعود إلى منزله فجراً ويرفع صوت الأذان* .. ويخبر والدي " عليهم رحمة الله " أن اليوم هو يوم لقاء الرحمان .. وكأن الله سبحانه وتعالى أذن لروحه وجسده أن يرحلان .. وفعلاً كانت آخر لحظات لوالدي وجدي أن يلتقيان .. فارتحل جدي ودفن بجوار جدتي وتحققت أمنية والدي بأن يدفن بينهما الإثنان ..!!
لقد كانت هذه إحدى أمنيات والدي التي كان يوصيني بها كلما زُرنا القبران .. وكأن به يحجز له مقعداً بين أطهر روحان .. وحنينه لهم ، وعطفه عليهم لم أرى شبيهاً له عبر ما سلف من الزمان .. وثاني أمانيه .. إن أراد رب العزة لروحه الرحيل ، أن ترحل وكما كان يقول " وأنا بركض على رجليّ " وهذا ما حدث وكان .. أما الثالثة .. أن يحج ووالدتي لبيت الله الحرام وزيارة روضة خير الأنام ، ليزداد القلب بنور الايمان .. لكن ارادة الله لم تسعف ذاك القلب والجسد أن يزدادان .. !!
فلقد كان لوالدي ذاك القدر المحتوم .. الذي فوق كل نفس بشرية على الدوام يحوم .. لحياةٍ أبداً لن تدوم .. وهو في طريقه لإتمام عملٍ عند الله وحده معلوم .. فالموت حقٌ ولا أحد عنه معصوم ..!!!
وبينما كان " يرحمه الله " في طريقه متجهاً من مدينتنا اربد إلى العاصمة عمون .. حيث لم يكن والدي ومنذ أن وعيت عليه يحب الكسل أو السكون .. بل بنشاطٍ وحيويةٍ رغم?Z بلوغه سن ما فوق الستون .. وإصابته بداء السكري الملعون .. و بحيويةٍ تفوق أبناء الثلاثون والأربعون ..!!
فكان " يرحمه الله " دائماً في حركةٍ دؤوبة في متابعة أعماله بقلبٍ مغوار .. متخيلاً سيارته ولا تعيقه كل الأسوار .. تارة تجده في اربد ، وتارة في عمان ، وأخرى تجده في سهول الأغوار .. في الحقل وبين تلك الأشجار .. التي ارتوت من حنين وعرق ذاك الختيار .. الذي عشق تراب الأرض بدون اختيار .. وأحايين أخرى يغير ذاك المسار .. لتجده في المحاجر وبين الأحجار .. وهو في طريقه وبعد " سيل الزرقاء " بعدة أمتار .. هناك وقفت له الأقدار .. حيث أوقف سيارته ولم يُرِد الانتظار .. لتأدية صلاة الظهر قبل أن تزول شمس الإظهار .. فأخذ ركناً من جانب الطريق بكل اقتدار .. ودخل في نية الصلاة لرب الكون بكل فخار .. وهذه اللحظة علمها عند الله ، إن كان قد همّ?Z بالصلاة أو لم يزل في انتظار .. وكان الهواء في ذاك اليوم شديداً كالإعصار .. فأخذ الهواء سجادة الصلاة من أمامه كلمح الأبصار .. لتتطاير قاطعة عرض الطريق كطير هُش?Z عليه فطار .. فذهب ليلحق بها في الطرف الآخر من الطريق لتتبدل الأقدار .... فتناولها ، وعند عودته قطع المسرب الأول من الطريق وهناك عميت الأبصار .. وإذ بإحدى وسائل النقل المتجهة من جرش إلى عمان تسير بسرعة القطار .. غدرت بوالدي ودهسته لمسافةٍ قدرت بعشرين متراً بل تزيد بأمتار .. ليريد الله له الرحيل عن هذا الكون ولتنتهي كل الأسفار .. وحمّل على ذات السجادة التي كانت سبباً في رحيله إلى دار القرار .. !!
آآآآآآه يا أبي ، يا ذي القلب الميمون .. ويا أغلى من العيون .. فقصة رحيلك وسجادة صلاتك وصلاة كل المسلمون .. حوّلت الحياة من الح?Zر?Zكةِ الدؤبة إلى صمتٍ وسكون .. وس?Zل?Zبتْ إرادة القلب المشجون .. ليستعرض القصص الجميلة من ذاك المخزون .. التي دوّنت على صفحاتٍ من الأيام والسنون .. بيد ذاك الأب الحنون .. لينعش هذا القلب المحزون .. بعد أن كان يتدفق بحمرةِ زهرة الدحنون .. حتى بات تارة يصحوا وتارة في جنون .. !!
آآهٍ يا أبي .. ست سنوات مضت على الرحيل وكلنا راحلون .. ولم أتخيل يوماً أنك رحلت ، ومن رحلوا قبلك لم يعودون .. ففي كل حركةٍ وكل سكون .. تُحرك ذكراك كل المشاعر و الشجون .. لأراك في كل ركنٍّ من أركان البيت أو العمل وكل العيون .. أو حتى في وجه أمي ووجوه إخوتي وأخواتي وكل من أحببت ويحبون .. تجدني أحتار في مخاطبتهم ، علّني في حلمٍ مجنون .. أفيق منه ويعود لي ذاك الأب الحنون .. فلك يا أبي وكل المسلمون .. الذين ارتحلوا عبر كل السنون .. أمّ الكتاب نقرأها لأرواحكم وأرواح كل المؤمنون .. ونحتسبكم شهداء عند الله وفي جنات النعيم خالدون ..!!
akoursalem@yahoo.com
* كان جدي " يرحمه الله " وبصورة اعتيادية يؤذن الفجر أمام بيته في كل ليلة .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد