سيرة بكب

mainThumb

15-12-2008 12:00 AM

كثيرا ما تحصل ألفة بين الإنسان والسيارة! فيعتبرها البعض رفيقته، هي بعينها ولا تقوم سيارة أخرى مقامها، وقد تصبح مع مرور الوقت تشبهه! في لونها وبعض تفاصيلها، فعندما تراها في مكان ما تعرف أن هذا هو بكب فلان ولا تتصور أحدا آخر في داخله، وإن رأيت سيارة أخرى من نوعه، لا يمكن أن تكون تشبه ذاك البكب، حتى لتشك أن الشركة الصانعة أخذت باعتبارها شكل "أبو فلاح" عندما صنعت "بكبه"، وبكب أبي فلاح من المعمرين في القرية، من الجيل القديم، وقد يكره ما يراه من فنون السيارات الحديثة ويعتبرها طيشا!.

عندما تسأل عنه الجيل الجديد لا يذكر متى أتى هذا البكب إلى القرية، فيكتفي بالقول: "من عشت وأنا بشوفه" حتى لكأنه من أجيال أبي فلاح أو هما توأمان، شب معه وها هو الهرم يغزوهما معا..

أوراق المركبة في دائرة الترخيص قد لا ترصد إلا معلوما ت لها علاقة بسنة الصنع وسعة المحرك واللون فقط، لكن بكب أبي فلاح له سجل عند الرجال من أجياله الذين عاصروه وشهدوا مولده وحركات تنقله، ومن أين جاء والى أين ذهب، وما كان عمله وتاريخه الاجتماعي بالكامل..

بالأمس في جلسة مسائية شتوية والكل ينتظر قصة تبعثر ضيق الليل الجاثم على القرية، كانت قصة بكب أبي فلاح هي الزاد والسمر.

سأل أحد الجالسين عنه، فانثالت القصص من كل الأطراف من الصغير والكبير، الكل يعرفه ورآه في موقف مضحك، ولكن هل يصلح للشراء، هل بقي فيه بقية؟ ارتفع صوت من جانب الجلسة: هو كأبي فلاح أنهى أيامه، ولكنه ينتظر أبا فلاح ليبدأ بكسر القيد ويرحل، ثم لا يبقى له عذر من الخلود إلى نوم عميق في "المحرقة" أو أحد الوديان..

-لا يعرف أحد بالتحديد متى وكيف دخل القرية! قالها شاب، فاتكأ شيخ مسن بعد أن أعاد ترتيب الفروة على جسمه وقال: لم يأت به أبو فلاح، الذي جاء به حمدان الأحمد اشتراه من معرض سيارات وكان يومها أفضل بكب رأيته، ولم يمكث عنده إلا أشهرا باعه بعدها لعودة الهملان وكانت أيامه عند عودة عصيبة، حيث مكث عنده خمس سنوات، وكان ينقل به الغنم والحطب في أرض وعرة حتى ترهل جسمه ورفرفت جناحاه وانخلعت، ولما يئس منه عودة باعه لعبد الجليل الحامد أقساطا فمكث عنده سنة ثم أعاده، لأنه لم يستطع الوفاء بالأقساط. ثم اشتراه خلف السعد الذي تعلم السواقة كبيرا فأهمله وكان أحيانا يتركه بجانب البيت لا يؤمنه، يحسبه كالحصان يتدبر شأنه بنفسه، فانطلق ذات يوم من جانب البيت على غير هدى فاقتلع زيتونة واستقر في وسط السهل، فحملوه وأصلحوه وأعادوا صبغه، فزان في عين أبي فلاح فاشتراه وما زال عنده إلى أن يأذن الله بتفرقهما..

قد يكون حرصنا على أشيائنا من قبيل الألفة وخاصة السيارة، فنحن نقتنيها، ونعايشها ونحفظ تاريخها، ونسبها كاحتفاظنا بالخيل ونبذل لها كل ما نملك، لمكانتها، وخدمتها لنا..

- لماذا إذا دخلت سيارة في ملك أحد البائسين لا تكاد تخرج إلا بوفاة صاحبها - وقالوا صاحبها كأنها الزوجة- وقد يحتفظ بها الورثة، ولماذا إذا أراد أحدنا شراء سيارة بحث في تاريخها المحفوظ واقتص أخبارها إن كانت أصيلا أو أنّ كرّ السنين والحوادث "كدشها"؟ وعمرها الافتراضي في منشئها لا يتجاوز عشر سنوات تتلف بعدها، ونحن نعمل لها سجلا مسموعا غير المكتوب وتفنى ولا نتركها ترتاح من عنائها!.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد