قبل الحديث عن حركة الحقوق المدنية التي يعتبر نجاح أوباما تتويجاً لنضالها وتضحياتها والتي نشطت في الفترة ما بين عامي 1955-1968 في الولايات المتحدة بهدف إلغاء التمييز العنصري ضد الأمريكيين السود، واستعادة حقوقهم المدنية لا سيما في الولايات الجنوبية، لا بدّ?Z من التوقف عند جذور المشكلة.
مأزق العبودية بدأت عملية تهجير الأفارقة بأعداد ضخمة إلى شواطئ أمريكا الشمالية في سنة 1619 ولم يعاملوا كعبيد في البداية، بل اعتبروا خدماً لأجل محدود، يخدمون لفترة من الزمن ثم يفوزون بالحرية، إلا أنه بحلول سنة 1661 أصبح السود يعتبرون رقاً مدى الحياة وكانت هذه بداية العبودية في الولايات المتحدة( ). جاء الأفارقة كعبيد بالقيود والسلاسل، وقد حرموا من الحقوق التي كانت بالنسبة للآخرين بديهية، فناضلوا ونذروا أنفسهم من أجل الحرية والكرامة المضمونتين لكل الأمريكيين، وقد ظهر من السود جيلاً بعد جيل عدد من القادة الزعماء الذين أبقوا هذا الحلم الأساسي حياً في ظل أحلك الظروف وضد آراء الأكثرية من أمثال بول كوف وريتشارد الف وفريدرك دوغلاس في القرن العشرين واي بي دوبوا وجيمس فارمر ومالكوم اكس ومارتن لوثر كنغ ولويس فرخان( ).
منذ البداية طرحت قضية العبودية ومعاملة السود معاملة غير البشر( ) أسئلة أخلاقية وجدت أمريكا البيضاء صعوبة في الإجابة عليها، كيف يمكن لمجتمع حر أن يحرم عدداً من أعضائه من المساواة في الحقوق؟ لقد جاء في إعلان الاستقلال ما يلي: "إن الناس جميعاً ولدوا سواسية، وأن الخالق وهبهم حقوقاً معينة لا تقبل التصرف بها وأن من بين هذه الحقوق الحق في الحياة والحرية ونشدان السعادة"( ). ولا شك أن السود قد فهموا جيداً هذا المأزق الأخلاقي الذي طرحه اضطهادهم واستخدموا فهمهم هذا عبر السنين لدفع أمريكا باتجاه التصالح مع نفسها وتحقيق المبادئ التي قامت عليها، كان الصراع الأول الذي فاز به السود الحرب ضد الاستعباد العنصري، وقد كان ذلك بمساعدة الرئيس الأمريكي السادس عشر أبراهام لنكولن الذي أصدر مرسوماً عرف باسم "إعلان تحرير العبيد" عام 1863 تم بموجبه منح الحرية لجميع العبيد في الولايات المتحدة والقضاء على مؤسسة العبودية التي دامت لأكثر من 200 عام( ). (أبراهم لنكولن محرر العبيد في أمريكا) وبعد ذلك بفترة قصيرة جداً، وضعت رصاصة قاتل حداً لحياة لنكولن ذلك أن المجتمع الأمريكي لم يكن مستعداً بعد لاعتبار السود بشر ومعاملتهم بالمساواة مع البيض ولا سيما في الولايات الجنوبية حيث مزارع القطن التي يعمل فيها السود مثل ولايات نورث وساوث كارولاينا، جورجيا، ألاباما، المسيسبي، وفلوريدا، وشكلت هذه الولايات جبهة موحدة ضد السود أصبح الإلغاء التام والشامل لجميع الحقوق التي منحت للسود المحررين الهدف الأسمى لولايات الجنوب، وبحلول سنة 1890 نجحت ولايات الجنوب بحرمان السود من حقوقهم السياسية، وكانت الخطوة التالية عبارة عن سلسلة قوانين أقرتها الولايات الجنوبية وأطلق عليها "قوانين السود" أو قوانين جم كرو (Jim Crow) هدفت إلى عزل السود والحد من حقوقهم وحرياتهم، فبموجب هذه القوانين وكجزء من العادات والتقاليد منع السود من ارتياد مرافق الخدمات العامة التي يستخدمها البيض مثل المدارس والمطاعم ووسائل المواصلات والفنادق والمسارح وحتى الكنائس إلى درجة أنه في المحاكم لم يكن مسموحاً للسود بالقسم على نفس الإنجيل الذي يقسم عليه البيض( )، فبالرغم من إنهاء مؤسسة العبودية إلا أن مؤسسة جديدة قد ظهرت في المجتمع الأمريكي قوامها لون البشرة وأسست لمجتمع قائم على التمييز العنصري.
وفي هذا المجتمع العنصري حرم السود من كافة حقوقهم السياسية فكان من المستحيل أن نجد أسود في موقع سياسي هام، وقد استخدم البيض شتى أنواع العنف والإرهاب إلى درجة الإعدام لمنع العبيد من المشاركة السياسية وظهرت بعض التنظيمات الإرهابية من البيض مثل جماعة كوكلاكس كلان (Ku Klux Clan) التي كانت تتولى تعذيب وإعدام الناشطين السود وحرق بيوتهم ومزارعهم وكنائسهم( ). وفي سنة 1896 حكمت المحكمة العليا في قضية بليسي فيرغسون (Plessy V. Ferguson) بصحة قوانين المواصلات انطلاقاً من مبدأ منفصلين لكن متساويين (Separate-but-equal)( ) وبعد ذلك طبقت قوانين جم كرو بمنطق قاس لا يرحم فحرم السود من ممارسة أبسط حقوقهم وحرياتهم وعلى رأسها حق الاقتراع، ومثلت الفترة من عام 1900 حتى الحرب العالمية الثانية منعطفاً أساسياً في تجربة السود، وفي بداية هذه الحقبة بدا وكأن ظروف السود ميؤوس منها إلى درجة أنه أثناء الحربين العالميتين كان الجنود السود في ساحات المعارك يحاربون منفصلين عن البيض( ).
غير أنه ظهر في مستهل القرن العشرين مجموعة من المفكرين السود في الولايات الشمالية وقد غاظهم غياب المساواة العرقية والظروف السيئة التي يعيشها السود في أمريكا بشكل عام وفي الولايات الجنوبية بشكل خاص، وبدأوا العمل على استعادة الحقوق المدنية للسود والمطالبة بتحسين ظروفهم، وأصبح واي.بي.دوبوا ناطقاً باسم المجموعة وفي عام 1909 شارك دوبوا ورفاقه في تأسيس الاتحاد القومي لتقدم الملونين (The National Association for the Advancement of the Colored People) وأعلن الاتحاد أنه ضد العزل الإجباري ودعا إلى تكافؤ فرص التعليم والتحرير الكامل للسود، وتبنى الاتحاد وسائل تقوم على إثارة الجماهير والدعاوى القضائية لتحقيق أهدافه( ). سار الإصلاح العرقي بخطى وئيدة جداً إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية، حيث قاتل السود بشجاعة، واستمدوا من تجربة الحرب الثقة بقدراتهم، وأخذوا يضيقون ذرعاً بعناد معارضي الحقوق المدنية ودعوات سمو الجنس الأبيض، وأصبحوا أكثر إقداماً وجرأة، يناضلون لإحقاق حقوقهم بعزم لا يلين، فقد أثبتوا أنفسهم في المعركة وأرادوا من أمريكا أن ترتفع إلى مستوى المثل التي قاتلوا من أجلها، وقد أصبح البيض الليبراليين يتعاطفوا مع السود ويدركون بألم التناقض بين محاربة الفلسفة النازية والفاشية والعنصرية في أوروبا بينما هم يسمحون بالتمييز العنصري في وطنهم، هذه الحقيقة كانت أيضاً محرجة ومؤلمة للولايات المتحدة زعيمة العالم الحر التي كانت تطالب الإمبراطوريات الاستعمارية بالتخلص من ماضيها في استعباد واستغلال البشر( ).
وفي صيف 1950 قامت مجموعة من المحامين المرتبطين بالاتحاد القومي لتقدم الملونين بشن هجوم جريء ومباشر على سياسة العزل في نظام التعليم. وفي أحد أشهر القضايا وهي المعروفة بقضية (براون ضد مجلس التعليم) (Brown vs. the Board of Education) حكمت المحكمة العليا خلافاً لقضية بلسي فيرغسون حيث قال كبير قضاة المحكمة ايرل وارين: "في حقل التعليم الرسمي، لا مكان لمبدأ "منفصل لكن متساوي" فمرافق التعليم المنفصلة غير متكافئة حكماً، لذلك ترى أن المدعين وغيرهم ممن هم في وضع مشابه محرومون من الحماية المتساوية للقوانين"( )، وشكل ذلك الحكم سابقة قضائية حيث سارعت بعد ذلك العديد من الولايات إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ قرار المحكمة. وعلى الصعيد الدولي فقد استقلت بعض الدول الأفريقية نتيجة نضال حركات التحرر الوطني في تلك البلاد والتي تعاطف معها السود في أمريكا، وفي ظل الحرب الباردة والصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي كانت الولايات المتحدة تبحث عن حلفاء وتقدم نفسها للدول المستقلة حديثاً كنموذج ديمقراطي بديل للنموذج السوفياتي الأمر الذي جعل الإدارة الأمريكية أكثر مرونة واستجابة لمطالب السود( ).
نشأة حركة الحقوق المدنية وإنجازاتها بعد مرور سنة واحدة على قرار المحكمة العليا الشهيرة بشأن التعليم، حصلت حادثة بسيطة ذات طابع إنساني بدت أنها غير ذات أهمية لكنها أدت إلى نشوء حركة الحقوق المدنية ودفعت بالحركة من المحاكم إلى الشوارع وانتقل نشاط الحركة من ولايات الجنوب إلى العاصمة واشنطن( )، وكان من ثمار هذه الحادثة أن دفعت إلى الواجهة على نطاق قومي أحد أبرز قادة الحركة الذي حقق لنفسه بشكل أوضح من اي شخص آخر زعامة كارزماتيه: القس مارتن لوثر كنج، في أعقاب النجاح الذي حققته المقاطعة بانتهاء العزل في المواصلات، بدأ كنج الكفاح في سبيل الحقوق المدنية واتبع فلسفة غاندي في اللاعنف، وقد أصبح زعيم الحركة وخطيبها المفوه، وقد اعتقل ما يزيد عن 7 مرات خلال نضاله في الحركة، وفي عام 1963 قام كنغ بتنظيم مسيرة "الزحف على واشنطن" للاحتجاج على بطيء وتيرة التقدم نحو إلغاء العزل والتمييز العنصري، حيث قدم إلى واشنطن أكثر من ربع مليون أمريكي من مختلف الخلفيات الدينية والعرقية، فشاركوا في أكبر مسيرة في تاريخ عاصمة الأمة، وسار الحشد من نصب واشنطن إلى نصب لنكولن التذكاري حيث ألقى كنغ خطاباً بعنوان "لدي حلم" اعتبر أحد أعظم الخطب في التاريخ الأمريكي، تحدث فيه عن آماله "بأن يأتي يوم يعيش فيه أطفاله الأربعة في أمة لا يحكم عليهم فيها بلون جلدهم بل بماهية شخصيتهم"( ). واستمر كنغ في العمل على تحقيق التكامل في السكن والعمل والتعليم من أجل تحويل حلم المساواة العرقية إلى حقيقة واثقة، وفي عام 1964 منح كنغ جائزة نوبل للسلام اعترافاً بجهوده والتزامه بمبادئ وممارسات اللاعنف كوسيلة لتحقيق أهدافه في العدالة والاجتماعية والكرامة الإنسانية( ).
وبضغط من حركة الحقوق المدنية بقيادة كنج أقر الكونجرس عام 1964 قانون الحقوق المدنية، ويعتبر هذا القانون أشمل ما أقره الكونجرس من قوانين داعمة للمساواة العرقية وأبعدها أثراً حيث أعطى التشريع المدعي العام سلطة إضافية لحماية المواطنين ضد التمييز والعزل في الاقتراع والتعليم واستخدام المرافق العامة، وقد ساهم هذا القانون في تسريع وتيرة التغير الاجتماعي وزيادة اندماج السود في المجتمع الأمريكي، وقد عزز في عام 1965 بقانون حقوق الاقتراع وقد ترتب على نفاذ هذين القانونين ازدياد عدد المقترعين السود وعدد المسؤولين السود المنتخبين ازدياداً عظيماً( ).
ومع النجاح في تطبيق القوانين السابقة حولت الحركة اهتمامها بشكل متزايد إلى مسألة الفقر في أمريكا وفي عام 1968 بدأت الحركة بقيادة كنج الإعداد لمسيرة ثانية للزحف على واشنطن للفت الأنظار إلى حاجة فقراء الأمة بيضاً وسوداً، إلى الوظائف والتعليم والظروف المعيشية الأفضل، إلا أن المأساة وقعت عندما اغتيل كنج برصاص قناص فيما هو واقف على شرفة في ولاية تينسي حيث كان قد ذهب إلى دعم إضراب عمال النظافة( ). وبفضل جهود كنج ورفاقه من السود والبيض الذين عملوا معه جنباً إلى جنب اقتربت أمريكا بجرأة وثبات من تحقيق رؤية الآباء المؤسسين بإقامة مجتمع ديمقراطي حر حيث كل الناس سواسية في نظر القانون بغض النظر عن لون بشرتهم أو نوع معتقدهم أو مكانتهم الاقتصادية أو غير ذلك، واعترافاً بإنجازات كنج الهائلة أصدر الرئيس رونالد ريغان قراراً بجعل يوم الاثنين الثالث من كانون الثاني عطلة رسمية قومية تكريماً لذكرى مولد كنغ، وهي المرة الأولى التي تكرم فيها الولايات المتحدة أمريكياً أسود( )، وقد صادفت ذكرى ميلاد كنغ هذا العام التاسع عشر من كانون الثاني أي قبل تنصيب أوباما بيوم واحد وإذا كان ذلك من قبيل المصادفة التاريخية إلا أنها لها أبعادها ودلالاتها للسود كما أشرنا سابقاً، الأمر الذي جعل السود يعتبرون يوم تنصيب أوباما اليوم الذي تحقق فيه حلم الأحلام، حلم مارتن لوثر كنغ.
يتضح بشكل جليّ مما سبق عرضه في هذا الجزء من الدراسة أن حركة الحقوق المدنية قد أثرت على مسيرة الديمقراطية في أمريكا بشكل كبير، لقد علّمت هذه الحركة السود الذين عانوا لعشرات السنين من العبودية والاضطهاد والحرمان والتمييز كيف يقهروا الظلم والاستبداد ويمكنوا أنفسهم ويحسنوا ظروف معيشتهم وأحوالهم، وأكدت على أن الاحتجاج الشعبي وسيلة فاعلة لتحقيق أهداف سياسية، لقد تجاوز تأثير الحركة منح السود حق التصويت وأكدت حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية، أما على الصعيد الخارجي فقد كانت الحركة مصدر إلهام لعدد من قادة حركة التحرر الوطني في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. (مارتن لوثر كنج زعيم حركة الحقوق المدنية) وفي ختام هذا الجزء من الدراسة لا بد من الإشارة إلى أنه بالرغم من التأثير والنجاح الذي حققته الحركة إلا أنها لم تحل نهائياً مشكلة التمييز العنصري في أمريكا، فالسود وغيرهم من الأقليات العرقية غير البيض لا زالوا في أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي في الولايات المتحدة حيث الشعور بالحرمان والمعاناة، ولكن في ظل نظام ديمقراطي يسمح بحرية التعبير يصبح الاحتجاج والحركات الاجتماعية أفضل الوسائل وأكثرها فعالية في لفت الأنظار والمطالبة بالحريات والحقوق، وفي هذا الصدد نستطيع القول أن حركة الحقوق المدنية قد تركت إرثاً غنياً بالدروس والتجارب والعبر التي يمكن أن يستلهمها ويتعلم منها الحالمون أو الباحثون عن الحقوق والحريات والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.
*رئيس اللجنة السياسية حزب الجبهة الأردنية الموحدة