برامج الدراسات العليا والصعود إلى الهاوية!

mainThumb

06-10-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان
لا أخفكيم أنني ما أزال أشعر بقدر من الزهو لأنني كنت أحد الطلبة العشرة الأوائل من خريجي قسم علم الاجتماع في الجامعة الأردنية عام 1995، غير أني كنت قلقاً بعض الشيء وقتها خشية ألا أحصل على مقعد في برنامج الماجستير في القسم، فقد كان القسم حينها لا يقبل إلا الطلبة الأوائل والمتفوقين بالفعل من مختلف الجامعات، وبأعداد محدودة للغاية، لا تتجاوز أصابع اليدين بكثير!
وقتها كانت رسوم الساعة المعتمدة في برامج الماجستير في الكليات الإنسانية (15) ديناراً أردنياً فقط، وكان من الممكن في ظل تلك الرسوم المعتدلة تدبر أمر تكاليف الدراسة من جانب معظم الطلبة، الذين كانوا يحصلون في حال تفرغهم للدراسة على بعض المنح نظير مساعدتهم أعضاء الهيئة الأكاديمية في البحث والتدريس؛ وهو ما كان يعينهم على تحمل الأعباء المالية المعقولة لدراستهم، لذلك لم تكن ترى في برامج الماجستير، ومن ثم الدكتوراه، إلا أكفأ الطلبة وأكثرهم نجابة واجتهاداً وقدرة على التحصيل.
في السنة التالية، لا أدري ما الذي حدث، ولا أعلم أي لعنة شريرة انصبت على رؤوس الجامعات، حتى فقدت صوابها وبدأت بمسيرة خرقاء يحفها التراجع والتدهور؛ إذ وجدناها تقرر فجأة رفع رسوم الساعة المعتمدة إلى (50) ديناراً مرة واحدة، مع توسع أرعن في استحداث برامج جديدة للدراسات العليا، وفي قبول أعداد أكبر من الطلبة، فضلاً عن السماح لخريجي البكالوريوس بأن يتابعوا دراساتهم العليا في تخصصات مغايرة لتخصصاتهم الأصلية، شريطة دراسة بعض المساقات التحضيرية، في عملية أقرب إلى الشكلية، وبصورة لا تسمن علمياً أو معرفياً ولا تغني من جوع!
ساعتها، باتت برامج الدراسات العليا تُشرع أبوابها لكل من هب ودب في واقع الأمر، وأصبح الطلبة الكسالى من الخاملين وأصحاب المعدلات المتدنية، الذين لم يكونوا يملكون الجرأة على مجرد الحلم بالاقتراب من كلية الدراسات العليا يتسكعون بحرية وصخب في ردهات تلك الكلية، ويتنقلون من تخصص لآخر فيها، وكأنهم يتنقلون من مقهى لآخر!
لقد استحالت برامج الدراسات العليا بذلك إلى ما يشبه "البوفيه المفتوح"، الذي يستطيع أي قادر على الدفع، حتى وإن كان مصاباً بتلبك عقلي مزمن يجعله عاجزاً عن الهضم، أن يختار منه ما يشاء، فبات بإمكان الطالب متواضع التحصيل والقدرات أن يدرس على مستوى الماجستير، ولاحقاً الدكتوراه، ما يود تقريباً، ما دام يمتلك القدرة على سد فم الجامعة النهم بحفنة من الدنانير، فهو يستطيع أن يلتحق ببرامج التربية، أو التاريخ، أو علم الاجتماع، أو الدراسات السكانية، أو العمل الاجتماعي، أو دراسات المرأة...الخ،
هذا، وقد تم فبركة البرنامجين الأخيرين المذكورين على وجه الخصوص بطريقة قيصرية قصرية ضمنت لهما الفشل الذريع لاحقاً ـ ويأتي حديثي هنا من باب التمثيل على السياسات المتخبطة العمياء لإدارات جامعاتنا العصماء ـ فقد تم استحداث البرنامجين في الجامعة الأردنية، وليس في الجامعة من هو متخصص جدياً للتدريس فيهما! وللتحايل على ذلك الوضع المختل، لجأ برنامج العمل الاجتماعي إلى إيفاد عدد من الأساتذة الحاصلين على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع أو الدراسات السكانية إلى كندا، بمنحة سخية من جامعة (ماكجيل)، تلك الجامعة التي أظنها كانت المسؤولة عن توليد البرنامج، وذلك للحصول على درجة الماجستير في العمل الاجتماعي، والعودة بعد ذلك لتدريس طلبة الماجستير!!! أما شقيقه المتعلق بدراسات المرأة، فلم يحظ بمثل تلك الفرصة، فاكتفى بالاستعانة بمدرسين يشتبه بأن لهم علاقة من قريب أو بعيد بالمرأة ودراساتها، كأن يقوم مدرس للأدب العربي مثلاً، كتب مقالاً صحفياً أو دراسة ما ذات مرة عن المرأة، بتدريس مساق المرأة والأدب، وهلم جراً! وأظنكم تستطيعون تخيل طبيعة مخرجات البرنامجين العتيدين، وهما يفتقران إلى أساتذة متمكنين من تخصصاتهم ولو بالحدود الدنيا! كما أظنكم تستطيعون أيضاً الرجوع إلى طلبة البرنامجين، وسؤالهم عن مدى استفادتهم من معظم أساتذتهم، هؤلاء الذين لا يخفي بعضهم عجزه الصريح عن تدريسهم مساقات يكاد يسمع باسمها للمرة الأولى في حياته!
في المقابل، وفي رقعة أخرى من العالم، حيث الجامعات الغربية التي تحترم نفسها، المعنية حقاًً بتخريج العلماء لا المتطفلين على العلم من "التنابل"، ولنأخذ الجامعات الأمريكية الشهيرة التي تحتل المراتب الأولى بين الجامعات على المستوى الدولي كمثال، فإننا نجدها تضع شروطاً كثيرة متشددة للغاية لقبول الطلبة في برامج الدراسات العليا، وذلك لضمان حصر إمكانات القبول ضمن نطاق أفضل الطلبة وأكثرهم تميزاً ورغبةً في تحصيل العلم وقابلية لتطويره، ولذلك لا يبدو غريباً أبداً أن تنجح تلك الجامعات في تخريج علماء أفذاذ، تتولى إبداعاتهم مهمة توجيه مسيرة التطور العالمي في شتى الحقول، ولا يبدو غريباً أيضاً أن نبتلى نحن بتخريج جهلاء أدعياء، تتكفل عبقرياتهم المهولة في إبقائنا في مؤخرة الأمم!
تفرض تلك الجامعات على المتقدم إلى برامج الدراسات العليا فيها أن يكون من حملة المعدلات المرتفعة في المرحلة الجامعية الأولى، وأن يحرز علامة عالية في اختبار متقدم لقياس القدرات العلمية العامة: اللغوية والمنطقية والرياضية (امتحان الجي آر إي/GRE ). كما تفرض عليه الحصول على درجات متقدمة في النسخة المتخصصة من ذلك الاختبار المشار إليه، وهي النسخة المعدة لقياس مدى إحاطة الطالب بالنظريات والمنهجيات السائدة في الحقل العلمي الذي يود التخصص فيه، كحقل التاريخ أو علم الاجتماع أو الأدب أو الفيزياء أو الأحياء...الخ.
وتطلب تلك الجامعات من المتقدم إليها أيضاً أن يزودها بثلاث رسائل توصية من أساتذة يعرفونه حق المعرفة، وذلك للإسهام في تقييم قدراته الأكاديمية على نحو دقيق. ويجدر التنويه بأن رسائل التوصية هناك ليست مجرد أمر شكلي، بل إنها تؤخذ على أقصى محامل الجد، ولا يمكن لأكاديمي أن يجامل طالباً ما وينسب إليه ما ليس فيه من قدرات وإمكانات. أما عندنا، فكثيراً ما يطلب الأساتذة من الطالب الراغب في الحصول على رسالة توصية أن يكتب الصيغة التي تعجبه، ليكتفوا هم بوضع بصمتهم، أقصد توقيعهم، عليها!
لم تنته بعد سلسلة المتطلبات الجامعية للقبول، فالقوم هناك يكلفون المتقدم للدراسة عندهم بأن يوافيهم بتقرير واف يوضح فيه اهتماماته الأكاديمية وتطلعاته المعرفية، والدوافع التي تقف خلف رغبته في متابعة تحصيله العلمي في ميدان معرفي معين، والأهداف العلمية والعملية التي يطمح إلى تحقيقها من دراسته. كما يطلبون منه تزويدهم بسيرته الذاتية التي تعرض إنجازاته وخبراته الأكاديمية والمهنية السابقة، إضافة إلى نماذج من دراساته وأبحاثه التي كتبها أو نشرها. وعلاوة على ذلك كله، يتوج بعض الجامعات تلك المطالب التي قد تستغرق عملية تلبيتها عاماً كاملاً من الجهد المضني بإخضاع أفضل الطلبة المتقدمين الذين يقع عليهم الاختيار المبدئي لمقابلات شخصية، وذلك لاتخاذ القرار النهائي الموضوعي فيما إذا كانوا جديرين بالقبول في برامج الدراسات العليا أم لا!
قارنوا بربكم كل ذلك مع ما يجري في جامعاتنا التي نتظاهر بأننا لا ندري أسباب تدهورها المضطرد؛ إذ ليس على الطالب الراغب في متابعة دراسته العليا عندنا إلا أن يقوم بتعبئة طلب روتيني باهت مختزل، أو ربما أكثر من طلب لضمان قبوله في برنامج ما، وانتظار التهاني الحتمية بعد أيام قليلة لحصوله على القبول في هذا البرنامج أو ذاك، أو ربما فيها جميعها!
أظن أن علينا أن نخجل من أنفسنا إذا كنا معنيين حقاً بمستقبل مجتمعنا وأمتنا ومستقبل العلم فيهما، فما فعلناه ونفعله بحق التعليم العالي يشكل جريمة حقيقية نكراء، فمن يتصدى لوقف تلك الجريمة!؟ أخشى أننا نحتاج إلى معجزة سماوية لحصول شيء من التغيير الجدي باتجاه تجاوز مستنقع التخبط الذي نختنق فيه، فقيادات التعليم العالي عندنا هي التي أوصلت الحال إلى ما هو عليه من تصدع، وذلك عندما بدأت بالتفكير بمنطق "البزنس" لا بمنطق العلم، وعندما بدت مقتنعة وسعيدة بالربط بين قدرة الطالب على الدفع، وتمكينه من التطفل على الجامعة!
بالمناسبة، ولمن لا يعرف، فإن جامعة هارفرد ـ وهي أهم جامعة في العالم قاطبة ـ جامعة خاصة وربحية، غير أنها لا تقبل إلا أنجب وأفضل المتقدمين للدراسة فيها؛ الأمر الذي يعني أن بالإمكان الموازنة بين معادلة الربح المادي والتميز العلمي. أما نحن، فقد انهمكنا بكل قوتنا في السعي إلى تحقيق الشق المادي من المعادلة، وتآمرنا في المقابل لإزهاق روح شقها العلمي غير آسفين عليه، في الوقت الذي نكذب فيه على أنفسنا وعلى الناس صباح مساء بالتحسر على ما شهده ويشهده التعليم العالي من انتكاس وتهشم!
في اليابان، التي تشكل أنموذجاً حضارياً بالغ التميز، ويبدو أننا نحن العرب سنموت ألف ميتة دون أن ننجح في تقليده أو حتى الإفادة منه، تمت هيكلة نظام التعليم العالي لاستيعاب أفضل (20%) من الطلبة إنجازاً وتحصيلاً؛ حيث يتم إعداد هؤلاء الإعداد الأكاديمي والفني اللائق والمتقدم لتقلد المراكز القيادية في مختلف المجالات، أما البقية من ذوي التحصيل الدراسي الأقل درجة، فيصار إلى تأهيلهم تأهيلاً فنياً ومهنياً ليتولوا مهمة إشغال المواقع الفنية والتنفيذية في المستويات الوظيفية الأدنى. فلماذا نقلب الآية عندنا بحماقة عز نظيرها، فنسمح لكل من ساعده الحظ على النجاح الهزيل بأن يضع أقدامه المتعثرة على طريق "الدكترة" الحتمية، ليتخرج بعد حين بمباركة وتواطؤ من النظام التعليمي الفاسد رغماً عن أنوف الجميع، ويدق بجهله المشرعن بشهادة فارغة متبجحة، وبمواقعه الوظيفية التي كثيراً ما يسطو عليها ظلماً وعدواناً بالواسطة والمحسوبية، مسماراً آخر في نعش أحلامنا المسكينة لإنجاز أي تقدم حضاري جدي!؟

sulimankhy@gmail.com


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد