الصّدق جوهرة

mainThumb

31-10-2009 12:00 AM

حسن فالح البكور

لكل مخلوق في الوجود جوهر ، وجوهر الأشياء أساسها ، لأنه عنوانها وقيمتها ،وعنصرها الذي يكملها وزادها الذي تتغذى عليه وتستقى منه ما يقيم نماءها وحياتها واستمرارها ،بل ويمدّها بالنضارة والجمال ، فتغدو في الأنظار من النفائس والكنوز كالرّوح للجسد ،وكالرّياح للسّحب ،وكالمطر للزرع والشجر .

لعل وجودي يتوقّف عليك أيتها الحبيبة إلى نفسي ، لأني رأيتك بعيني وقلبي ،فسررت بمرآك الجميل, فأدخلتك إلى روحي خليلة, فكنت عيني التي أبصرت بها معنى الحياة ، وسمعي الذي أصغيت إلى نداءاتك في كل الميادين، لمست في عباءاتك نعومة الكون ، وشممت من عبيرك روائح السعادة والسرور ، وتذوّقت من ريقك المعسول حلوّ الحياة وسرّ الجمال .

وعلى الرغم من هيامي وعشقي لكل ما فيك من الخصال ،فإنني لست أنانيا ونرجسيا بحبي لك ،ولست من الناس غيورا عليك ،لأنك صنيعة الرحمن وهدية القرآن إلى كل مخلوق يحافظ عليك ،لأنك رفيقة الأنبياء والمرسلين والصحابة الخيّرين, وأولياء الله الصالحين ،والمؤمنين الطاهرين ،عشقتك لأنني فتّشت عنك في كل مكان ،فوجدت ابتسامة كل إنسان تنسج حكاية عن أصلك ،وشهامة كل فارس مغوار تلألأت على جبينه من آثارك ،وحلم كلّ الكبار تطرّز على صدورهم نقوشا من رسمك ، ووجدت علم كلّ التلاميذ شموعا من قناديلك ومصباحك ،وعلمت أن مفاتيح السعادة تنبع من صدرك ،ودفء الحياة يوقد في حضنك ، ونور الكون شرارة تقدح الظلمة والجهل من زندك .

يا من عشقتم غير عشيقتي أراكم تتخبّطون في وحل الحياة ومستنقع الأوهام ، تدافعتم على الأحلام فتاهت بكم في مهاوى الرّدى, فتعالت صيحاتكم بالشقاء والحرمان ، وارتسمت على جباهكم علامات الخزي والذلّ والعار ، وتراقصت على رؤوسكم غربان تنعق بضنك العيش في الليل والضياء ، وفي صحارى الكون غرقتم, فهبت عليكم ريح صرصر عاتية ، فما عدتم سوى أعجاز نخل خاوية, فلن نرى لكم من باقية .

منذ طفلا كنت , أحببتك, وعشقت اسمك, ورددته في حديثي مع أقراني , ووسمت الكثيرين منهم بصفات مشتقة من اسمك , رتّلانك في المدارس على أوتار العود كل صباح ومساء , وحفظنا الأناشيد التي تردد معناك , وحينما كنا ندخل المسجد نصلّي نسمع الإمام يلهج بذكراك قائلا : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ــــ" وتارة نقرأ في كتاب الله " هذا ما وعد الله وصدق المرسلون " وقوله " إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا "

أيتها المحبوبة في الأرض والسماء أحببناك لأن منافع الحياة تتنزل من شفاك , فعبيرك بلسم الجراحات , وروحك الطاهرة مرتقى العباد إلى السيادة في الحياة , ومعراج المؤمنين إلى الجنان , وأنت نافذة الصغار والكبار إلى حقول العز والجاه والسلطان , وأنت بربيعك الدائم, وحلتك الخضراء تتيهين دوما على شقيقاتك الأخريات , فيستعرن من جدائلك البيض ما يبدّد من دروبهن سحبا تلبدن في سمائهن بغير أمطار .

فيا أيها اللاهثون وراء السراب كفاكم متاعا ولهوا في شقيقات عادين محبوبتي, واللواتي غرّدن على الأرائك بشجي الألحان , شقيقات مائلات مميلات والعياذ بالله من شرهن المستطير , ومن أسمائهن : الزور والبهتان , والظلم والجور ,والخيانة والفجور, والرذيلة والغدر والجبن, وذل تأنفه حيوانات الغاب , هلمّوا أصحاب الجن والشيطان إلى فناء رحب تنفثون في حياضه سموم الروح والفؤاد , وحين تتطهرون تلك عشيقتي في أبهى الحلل والجمال تتقدم واثقة الخطى لتكون تاجا يزين الجباه , وعقدا يتدلى في الجياد , ومعصما يحفظكم من عاديات الزمان .

محبوبتي أنت جاهي وسلطاني, أتيه بإكليلك الوضّاء المرصّع على جبيني ,وأمتشق عيونك سيفا يبدّد عتمة الليالي والزمان ,وفي فضائك الرحب أحلّق كالنسر شامخا فأخترق حدود الكون بنظام ,وفي بحرك العميق أصول, فأصطاد كل نفيس غاب عن المرجفين القابعين على شواطئ الحياة , أولئك السادرون في الغيّ والتصابي, ومن وجنتيك أجرّ إلى روحي –كما تجرّ الماء-أسباب الحياة ,وعلى أغصانك الخضراء أشدو -كما تشدو الطيور-أعذب الألحان, وأبنائي الصغار ترفرف بهم الأغصان ويعزفون على قيثارة الكون أجمل الأشعار,

فيا أصحابي –قبل فوات الأوان –تعالوا ,هيّا الحقوا بالقطار ,ففيه النجاة من الشقاء والحرمان ,وان تباطأتم ,أو تخاذلتم, أو تقاعستم ,أو تمارضتم , فلوموا أنفسا أبت إلا السقوط في مهاوى الرذيلة والفساد ,فوداعا يا من كنت أحسبكم كمن يحسب السراب في الصحراء ماء.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد