النهب .. بين الامس واليوم

mainThumb

12-05-2010 08:34 AM

        نهب المال العام ، كان وما يزال احد اكبر الآفات الاجتماعية ، التي عانى ويعاني منها بلدنا منذ عقود من الزمن ، وحتى قبل ان تنحدر قيمنا الاخلاقية ، ويصبح المال هو المقياس الوحيد للوضع الاجتماعي ، وقبل ان تغزونا هذه الانماط الاستهلاكية والترفية ، وهذه الهجمة الشرسة من الغلاء والجشع ، التي زادت من الطلب على المال ، لعدم كفاية الراتب  في توفير الحد الادنى من الرفاهية ، او حتى الاحتياجات الاساسية ، من سكن وسيارة ودراسة جامعية وخدمات صحية ، وهي ما كانت مبررا للتطاول على المال العام ، لمن استطاع اليه سبيلا ، ولم يكن العقاب لمن وقع عليه كافيا لردع الاخرين ، او ردعه هو نفسه عن تكرار فعلته .




     وفي المقابل ، هناك المتنفذين المدعومين ، الذين يمارسون نهبا لا ينالهم عليه اي عقاب ، بل ينالون ما يشبه المكافأة ، حيث انه بعد افتضاح امر احدهم ، يتم نقله الى موقع مسؤولية اخر ، ليمارس نهبا جديدا ، ومثل هولاء لا يخجلون من اشهار "النعمة" ، وكأن لهم فلسفتهم الخاصة في الترجمة العملية لعبارة "اما بنعمة ربك فحدث" ، فهم قد يفلسفون سرقتهم من مال الشعب ، بعدم كفاية رواتبهم ، مقابل "الجهود العظيمة" التي يبذلونها في مواقعهم ، او تحت اي بند فلسفي تبريري اخر ، وفي نفس الوقت ، وبعد ان يصبحوا من اصحاب الملايين ، تزداد مكانتهم الاجتماعية لدى فئات من شعبنا ، يعتبرون ما قام به مثل هولاء اللصوص ، عمل جريء ومبرر ،  او ربما يهاجمونه ، لكنهم يتعاملون معه تقربا لامواله ومكانته الاجتماعية ، التي صنعتها سرقته ، فبدلا من ان يحتقر المواطن النزيه ، الذي يشبعنا حديثا عن النزاهة والوطنية هذا اللص ، ويشعره باشمئزاز المواطن منه ، نراه يتقرب منه ، ويطمح ان تتاح له نفس الفرصة لممارسة النهب مثله ،  وهذا الانحدار الاخلاقي لدى هذه الفئات من شعبنا ، هو احد مبررات استمرار النهب والفساد ، واحد مبررات تخلفنا وضعف انتماءنا الوطني .




     هذا هو النمط من نهب المال العام ، الذي تعايشنا معه نحن ابناء هذا الجيل ، وشهدنا تطوره كما ونوعا ، وتوسعه افقيا وعموديا ، لكن عهد الديجتاليين ، او ما يسمون بالليبراليين الجدد ، الذين شاءت سوء الاقدار ، ان يوضعوا في مواقع المسؤولية الكبرى ، حتى ممن لم يمتلك منهم الخبرة الكافية لصغر سنه ، مع هالة كبرى صنعت حولهم ، تذكرنا بعهد "الطفل المعجزة" الذي كان سائدا في السينما العربية ، في عقود الخمسينات والستينات ، وقد كبر هولاء الاطفال ، فلم يصبحوا لا معجزة ولا حتى موهبة عادية  في السينما ، تماما مثل الديجتاليين الذي فككوا مقومات الدولة بالخصخصة ، وعرضوا كل مكونات الوطن للبيع ، ولم تسلم منهم رموز الوطن ، وثبت اخيرا فشلهم ان لم يكن سوء نواياهم ، فسرقت عوائد الخصخصة ، وزادت مديونية الوطن ، وعاد فقراء الوطن كي يتحملوا عبء هذا الفشل ، ويفرغون ما تبقى من جيوبهم المقفرة ، وستظل نتائج هذا الفشل وهذا التدمير للوطن ، عبئا عليهم وعلى ابنائهم واحفادهم ، في الوقت الذي يستمتع فيه الديجتاليون بالملايين وربما المليارات .




     لقد اصبحت سلبيات الخصخصة في مواقع عديدة ، ماثلة لكل ذي بصيرة وبصر ، جاءت لتصنع طبقة اجتماعية جديدة ، ولتزيد من الفوارق الاجتماعية الطبقية ، حيث يتقاضى بعض موظفيها ، من الذين اصبحوا يسمون كبارا ، رواتب خيالية ، زادت عن خمس اضعاف رواتبهم القديمة ، ويتمتعون بامتيازات باهظة التكاليف ، دون ان ينال بقية الموظفين ما يتناسب مع هذه الرواتب والامتيازات ، بل اصبح امنهم الوظيفي في مهب الريح ، لان الخصخصة تهدد هذا الامن ، وتسعى للقذف بمعظمهم في الشوارع ، كما حرمت الخصخصة خزينة الدولة من الملايين ، فكانت بعض نتائجها ، نهبا جديدا لكنه "مشرعن" وفق فلسفة منظري الخصخصة .




     لم تقتصر موضة الرواتب الخيالية على المؤسسات التي تخصخصت ، بل امتدت الى مؤسسات عامة وشبه حكومية ، حيث تغيب عدالة منح الرواتب ، فكم سمعنا عن سكرتيرات تصل رواتبهن الى خمسة الاف دينار ، ومحسوبية واضحة في منح رواتب عالية لابناء وبنات المتنفذين ، دون وجه حق ، او تميز معين .




     لقد بادرت الحكومة لمعالجة الخلل في الرواتب للوزراء والنواب ، فقرر مجلس الوزراء تحويل ما نسبته 20% من رواتب الوزراء ، لصندوق خاص بالفقراء ، وها هو قانون الانتخاب الجديد يلغي رواتب النواب ، ويخصص لهم مكافأة بدلا منه ، وهذه المكافأة ، ومهما كانت مرتفعة ، تبقى اقل هدرا للمال العام ، من رواتب عالية مؤبدة ، كان يتقاضاها النواب ، حتى لو شغل مقعد النيابة لدورة واحدة فقط ، فاصبح الصراع الاجتماعي في الانتخابات النيابية ، هو على "بريستيج" النيابة وراتبها وتقاعدها وامتيازاتها المشروعة وغير المشروعة ، مما ساهم في اشتداد حدة الصراع الاجتماعي على المقاعد النيابية ، حتى من قبل اصحاب الملايين ، الذين اجتاحوا بملايينهم مجلس النواب الخامس عشر ، طمعا في زيادة جاههم وثرواتهم ، وليس لخدمة هذا الشعب البائس الذي انتخبهم ، وكلنا امل ، ان يفرز لنا قانون الانتخاب الجديد ، نوابا حقيقيين ليخدموا الشعب ، وليس لممارسة النهب .




     اننا ندعو الحكومة ، التي ترفع شعار محاربة الفساد ، الى التصدي لهذا النموذج الجديد من الفساد ، فتحد من هذه الرواتب الخيالية ، وتفرض على اصحابها ما هو اكثر من 20% تبرعا للفقراء ، فهذه الرواتب اعلى بكثير من رواتب الوزراء ، لا بل تصل بعضها الى اكثر من خمس اضعاف رواتب الوزراء ، واعتقد انه لا يجوز ابدا ان يكون هناك راتب لاي موظف ، اعلى من راتب الوزير ، الذي يدرك الجميع حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه ، ولقد احسنت الحكومة صنعا ، بتعديلها لقانون الضمان الاجتماعي ، وتحديد السقف الاعلى للراتب الخاضع للضمان بخمسة الاف دينار ، ونطالب بتخفيضه مرة اخرى الى ثلاثة الاف دينار .

     اننا نضم صوتنا الى صوت المتقاعدين العسكريين ، الذي وجهوا النداء لمكافحة الفساد في بيانهم الاخير ، فلامس هذا النداء  قلب كل مواطن حر شريف ، يعتز بانتماءه للوطن ، ويعيش الحسرة على ما أل اليه الحال من ممارسات النهب ، سواء كان مشرعنا اوغير مشروع ، ونطالب باسترداد ما سلب من اموال الشعب ، وان لا نترك الفاسدين يستمتعون بهذه الملايين ، وفقراء الوطن يسددون مديونيته التي صنعوها .



     كما نضم صوتنا الى صوت اخوتنا من نشامى الوطن ، وحماة الديار ، باستعادة الممتلكات العامة للدولة ، كي لا يضطر ابناؤنا واحفادنا ، للنضال مجددا ، من اجل تأميمها .

  


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد