الاعتذار .. الثقافة الغائبة

الاعتذار  ..  الثقافة الغائبة

20-08-2010 07:00 AM

 يرتبط مفهوم الثقافة بمنظومة القيم والمفاهيم والمعارف وأساليب التفكير الحاكمة للسلوك، لمجتمع  ما، و في غياب التعليمات و الأنظمة  تحدد الطريقة التي يتصرف بها الأفراد والطريقة التي يتفاعلون بها، كما أنها تؤثر بشدة في الأساليب التي يتم بها إنجاز الأعمال، ومن هنا نشأت أهمية السيطرة على الحراك الثقافي وتشكيله بما يولد ثقافة تدفع الأفراد لسلوكيات مرغوبة بالمحصلة، تدعم خطط التنمية عوضاً عن أعاقتها .



 الخطأ سمة من سمات البشر، وكل إنسان معرض للخطأ تحت وطأة الانفعال ، وليس عيباً أن يخطئ المرء ، ولكن العيب أن يستمر في خطئه. وكما يقولون: الاعتراف بالخطأ فضيلة، والعودة عنه قوة؛ و من منا لا يذكر  مقولة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (أخطأ عمر وأصابت امرأة) .



        و يقال أن الاعتذار رجوع إلى الحق، قرار بالخطأ، إحساس بالندم، سلوك حضاري ، فضيلة تدل على الثقة العالية بالنفس، فن ومهارة اجتماعية وأسلوب تصرّف وينبوع يتدفق بالحب والصفاء والتفاهم الحقيقي يتطلب جرأة أدبية كبيرة لأنه ليس مجرد ملاطفة. وقبوله دليل وعي ونضج فكري واضح يزيد من أواصر المحبة والتقارب والتفاهم بين أبناء المجتمع. إلى جانب كل ذلك فهو ثقافة عامة تسمو بصاحبها، لأنها غائبة عن حياتنا ومجتمعاتنا.



      الاعتذار أدب اجتماعي ، ينفي شعور بالكبرياء، يبعد الحقد والبغضاء، يدفع عن صاحبه  الاعتراض  عليه ،   أو إساءة الظن. ومع أن الاعتذار بهذا المعنى حسن، فالأحسن منه أن تحذر من الوقوع فيما يجعلك مضطرًا للاعتذار، فقد جاء في الوصية الموجزة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا". فإن زلت قدمك مرة فإنه "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة..



         وتقبل  الأعذار بطيب نفس، وبالعفو والصفح، يحض الناس على الاعتذار، وسوء المقابلة للمعتذر وتشديد اللائمة عليه يجعل النفوس تصر على الخطأ، وتأبى الاعتراف بالزلل، وترفض تقديم الأعذار ، فإن بادر المسيء بالاعتذار فبادر أنت بقبول العذر والعفو عما مضى لئلا ينقطع المعروف .



         و السؤال الذي يطرح نفسه لماذا غابت بعض المفردات عن عالمنا مثل  "آسف"، "معذرة"، "أرجو أن تسامحني" ؟ لماذا افتقدناها وأصبحت كلمات غريبة على مسامعنا؟ لا نكاد نسمعها من المخطئ هذا إن اعترف من الأصل بخطئه.. لماذا نشعر بأننا على حق دائما بينما الآخرون على خطأ؟، وهل وصلنا أحدنا لحد الكمال ؟! فمثلا وأنت تسير بالطريق أحيانا ما تجد من يلكز عابر آخر دون أن يعتذر له ولو بالإشارة ،  وقد انعكس ذلك السلوك حتى على المستوى الرسمي فقلما سمعنا عن اعتذار جهة رسمية للناس عن تقصيرها في أداء واجباتها ، الاعتذار عموما هو أدب اجتماعي إنساني رفيع واستعادة لاحترام الذات .



   ينقسم الناس في إدراكهم لثقافة الاعتذار إلى ثلاثة  أصناف :

E  مالكو   شجاعة الاعتذار السريع أي مراجعة النفس مباشرة عند وقوع الخطأ غير المقصود  أو السلوك السلبي عند حالة الغضب.


E  الذين يعتذرون بعد مراجعة النفس وهو ما يأتي متأخراً نوعا ما، بعد أن يقضي المخطئ حالة مراجعة للموقف ومحاسبة النفس .


E   أشخاص  مدركون  تماماً لحجم أخطاءهم  ، لكنهم  يكابرون  و يمتنعون  عن الاعتذار .. ويطالبون  الناس أن تتقبلهم  على حالهم  ، وهو النمط السائد في مجتمعاتنا .


أسلوب التربية في المجتمعات العربية يدعم فكرة رفض الاعتذار عموماً. ويزيد من ذلك الرفض لدى الذكور على الاعتقاد  الخاطئ أن الاعتذار يعني انتقاصاً من الرجولة، والرجل الشرقي يقبل بأي شيء إلا الانتقاص من رجولته. كذلك إذا رأت الأم ابنها في خلاف مع أصدقائه أو زملائه، تشجعه على هجرهم وعدم الاعتذار لهم حتى لا يفقد مركزه ، على اعتبار أن الأقوى لا يعتذر. وتكون تلك هي البداية التي تتراكم عليها باقي السلوكيات الرافضة للاعتذار بين كل أفراد المجتمع.



أن ثقافتنا المعاصرة، والمتخلفة أحياناً - للأسف - تعتبر أنَّ من (القوة) أن تثبت على مواقفك، ولا تتزحزح عن أقوالك، ولا تعترف بأنك أخطأت. ثقافة الاعتذار لا وجود لها في عقليتنا  المعاصرة، ؛ فالاعتذار  - كما يظن البعض  - دليل على الضعف ، يقلل من (هيبة) ومكانة الفرد  الاجتماعية وينقص احترام الناس له ، بينما تقول التجربة : إن الذي يملك الشجاعة لأن يقول: (نعم أنا أعتذر) هو في حقيقة الأمر لا يُعبر عن شجاعته الأدبية وثقته في نفسه فحسب، وإنما يثبت أنه أهلٌ لتحمل المسؤولية ، فاعتذاره  يعني أنه على استعداد أن يتعلم من أخطائه، ولا يعود إليها ثانية، بينما أن المراوغ والمكابر والمغالط والعنيد هو أخطر من يجلس على كرسي المسؤولية، لأنه سيخطئ، ثم يكابر، ويتمادى في خطئه، وينتهي بنفسه وبالآخرين إلى بلاء .



وفي تقديري أن غياب ثقافة الاعتذار، يدل على ضعف الإنسان، وعجزه من مواجهة أخطائه؛ بمعنى أن الرجل المكابر العنيد المصر على أخطائه، هو في الواقع يحاول أن يحمي نفسه، وأن يحصن ذاته بالعناد والمكابرة، كي لا ينكشف (ضعفه)؛ وعندما يجد أنه لا مفر من الاعتراف بالخطأ، يلجأ في الغالب إلى مشجب (التبرير) ليعلق عليه أخطاءه؛ فتجده يجتهد لأن يبحث عن مبرر مهما كان واهياً وغير مقنع ليتملص به من تحمل المسؤولية، وهو لا يعلم أنه يكشف عن وَهَنه وهشاشته للآخرين، وإن حاول جاهداً أن يبدو خلاف ذلك.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد